القرن الأفريفيتحليلاتمقالات

الحراك في القرن الأفريقي، الواقع والمآل

بعد النجاح النسبي للحراك الثوري في إثيوبيا، وسقوط النظام السابق، والذي دام في الحكم قريبا من ثلاثة عقود؛ حيث كانت الأقلية العرقية ( التغراي ) حاكمة، ونجحت بشكل غير عادي الجمع بين السلطة والثروة مما جعل الشعوب في إثيوبيا تثور بقوة، وخاصة القوميتين اللتين تمثلان العمق، والأغلبية معا، فالقومية الأورومية تمثل الأغلبية المطلقة في إثيوبيا، فهي تتراوح ما بين 40% و 45% من تعداد السكان البالغ ( ٩٠ ) مليون نسمة حسب الإحصائيات الأخيرة، بينما تمثل القومية الأمهرية الدولة العميقة ما قبل حقبة حكم التغراي؛ حيث حكم الأمهريون الدولة الحديثة أكثر من قرن من الزمان، وتحتل أيضا المرتبة الثانية من حيث عدد السكان، فهي تربو أكثر من ( ١٢ ) مليون نسمة .

لقد قاد الحراك الإثيوبي قيادات سياسية في الداخل والخارج، وخاصة من القوميتين الكبيرتين، وحاولت الحكومة السابقة إفشال الحراك في أكثر من محاولة، ولكنها باءت كلها بالفشل أمام الصمود الكبير من أبناء القوميتين، والعجيب في هذا الحراك أن الثوار نجحوا في استمالة جزء هام من السلطة، وعلى رأسهم رئيس الوزراء الحالي الدكتور أحمد علي آبي، وخاصة من القوميتين المذكورتين .

يرى بعض المراقبين بأن من أهم الأسباب الرئيسيّة في نجاح الحراك الثوري انحياز بعض الشخصيات الكبيرة في الحكومة السابقة، كما أن بعض الأقاليم الكبيرة رفضت الأوامر في مواجهة الثوار، بل أصبحت السلطات المحلية جزءا من الحراك الثوري مما قوّى الحراك، وضعّف السلطة بشكل قوي، ومن هنا رأينا الحراك الثوري في تمدد نحو الأقاليم الأخرى، وخاصة بعد أن انحازت الشخصيات الهامة كالدكتور أحمد آبى، ورؤساء بعض الأقاليم كإقليم الأمهرا، (القومية الثانية) من حيث تعداد السكان، (والإقليم الثالث) من حيث المساحة وإقليم الأورومو الذي يمثل ( الأول ) من حيث المساحة، وعدد السكان .

واصل الحراك الثوري عمله حتى بعد تعيين الدكتور أحمد آبى رئيسا للحكومة، ووصلت الاحتجاجات إلى الإقليم الخامس، والذي تقطنه القومية الصومالية، وهو الإقليم الثاني من حيث المساحة، والثالث من حيث عدد السكان، ونجح الحراك في هذا الإقليم في إسقاط رئيس الإقليم، وحكومته المتحالفة مع النظام السابق، والتي كانت لديها بعض الجيوب العاملة في بعض الأقاليم، وعلى رأسها الإقليم الخامس .

تضارب وتقاطع

في هذه اللحظة الاستثنائية في المنطقة، لحظة حراك ثوري ينجح في أهم دولة في القرن الأفريقي، دولة تملك إمكانيات ضخمة في المجالين البشري والمادي، وكانت تحقق في سنوات متتالية نموا يتراوح بين 6.5 % و 8 % ، وبهذا سجلت بأنها الدولة الأولى أفريقيا، ومع هذا لم تكن تلك الطفرات الاقتصادية تعود على المجتمع بالخير، بل سجلت المنظمات ذات الصِّلة بالتنمية أن البطالة زحفت نحو ٣٠ % في حين واجهت بعض الأقاليم الجفاف المستمر، والفقر المستدام دون معالجات حقيقية، ولهذا واجهت البلاد أخطر ثورة في التاريخ الحديث .

في المنطقة قوى دولية لها مصالح عالمية، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي لديها قاعدة عسكرية هامة في جيبوتي، وهي القاعدة الأولى والأضخم والأهم في القارة الأفريقية، وأتت الولايات المتحدة بعد هجمات سبتمبر في عام ٢٠٠١، وبعد أن ازدادت أهمية القرن الأفريقي المطلّ على البحر الأحمر، ومضيق باب المندب الإستراتيجي، وفي جيبوتي أيضا قاعدة فرنسية هامة تعتبر الأولى في العالم، وهي موجودة فيها منذ الاستقلال في عام ١٩٧٧م، وللعلم كانت جيبوتي مستعمرة فرنسية، ثم تكاثرت القواعد العسكرية في هذا البلد الصغير جدا، والواقع في مضيق باب المندب، والبعيد نسبيا من الحروب الأهلية، فجاءت اليابان وافتتحت قاعدتها العسكرية الوحيدة في العالم، فإسبانيا وألمانيا، وأخيرا، جاءت دولة الصين ذات الطموح السياسي والاقتصادي، وافتتحت القاعدة العسكرية الأولى لها، والأضخم في جيبوتي، وقريبا من القاعدة العسكرية الأمريكية دون استشارة من قبل الحكومة الجيبوتية للغرب، الحليف الإستراتيجي السابق لجيبوتي، وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا .

إن الصين تقيم تحالفاتها مع الأفارقة بدون شروط قاسية كما يقول القادة في أفريقيا، ومن هنا صارت الصين بديلا قويا لإقامة تحالفات إستراتيجية، وخاصة في مرحلة الحراك الثوري في العالم العربي وارتداداته في المحيط الأفريقي، فلا وجود لشروط ديمقراطية، ومراعاة حقوق الإنسان، والحكم الرشيد للمعونات الصينية، ولهذا انحازت القارة الأفريقية للصين، ومنها جيبوتي التي تعانى منذ الاستقلال أزمات اقتصادية متطاحنة، وكذلك إثيوبيا، و التي تخطط لقيادة القرن الأفريقي، رأت أولوية في إقامة تحالف اقتصادي مع الصين، وكل ذلك يتم تحت رؤية الصين، والتي ترى أن مستقبل العالم في القارة الأفريقية ذات السكان الكبير (مليار ونصف) تقريبا، وذات الإمكانيات الهائلة، وخاصة في الثروات الإستراتيجية .

هنا، في القرن الأفريقي تضارب مصالح ما بين الغرب ( الولايات المتحدة ) نموذجا، والصين من جانب، وتصادم مصالح ما بين القوى الإقليمية المتصارعة ( تركيا وقطر ) من جانب، والسعودية والإمارات من جانب آخر .

وقفت جميع القوى الغربية مع الحراك الثوري في إثيوبيا، ذلك لأن الحكومة السابقة أقامت تحالفا غير مشروط مع الصين، الخصم الإستراتيجي للغرب في قيادة العالم، دون أن تقطع علاقاتها الإستراتيجية والتاريخية مع الغرب، ولكن شعر الغرب ثمة تنافس معه في صداقة إثيوبيا، الحليف التاريخي له، ومن هنا كان لا بد من تغيير محتمل في السلطة، فوجد الغرب ضالته في الحراك، بينما الصين كانت مع عدم التغيير، لأن الاستمرارية كانت لصالحها، بينما كثير من القوى الإقليمية كذلك كانت مع عدم التغيير، ولهذا رأى رئيس الوزراء الجديد بعد نجاح الحراك الثوري ضرورة العمل في مجالات ثلاثة :

أولا: طمأنة المحيط في القرن الأفريقي، وخاصة مع الدول التي تملك السواحل كجيبوتي، والصومال، والسودان، ومن هنا قام رئيس الوزراء رحلة مكوكية لهذه الدول بدءا من جيبوتي، ذلك البلد الذي كان، وما زال الرئة الرئيسيّة الهامة التي يتنفس منها الاقتصاد الإثيوبي منذ زمن منيليك، الإمبراطور الذي أسس إثيوبيا الحديثة، وثنى بالسودان، الحليف المهم الذي وقف مع إثيوبيا في معركتها مع إريتريا، ولَم يقف موقفا معاديا كموقف مصر عند بناء مشروع سد النهضة، والذي خلق قلقا مصريا، وما زال، وثلّث بالصومال، ذلك البلد الذي يمر أخطر أزمة في التاريخ؛ حيث يواجه حركات العنف ( الشباب ) المتأثر بالفكر الجهادي، وتصارع القوى الخارجية في داخل أراضيه، ووقَّع مع هذه الدول كلها معاهدات اقتصادية وسياسية من شأنها دعم الاقتصاد الإثيوبي المتسارع، بل وأعلن رئيس الوزراء الإثيوبي في الصومال إمكانية الوحدة في دول القرن الأفريقي .

ثانيا: قام رئيس الوزراء الزيارة التاريخية لإريتريا، وأنهى بهذه الخطوة الجريئة حربا دام عشرين عاما بين الجارتين، ومن هنا نجح إعادة الدفء للعلاقات من جانب، وإخراج إريتريا من العزلة السياسية والاقتصادية، وتم بعد ذلك فتح السفارة الإثيوبية، والحدود البرية والجوية، وأرست السفن العملاقة المملوكة لإثيوبيا الحبيسة في الموانئ الإريترية لأول منذ عام ١٩٩٩م .

ثالثا: يرفض رئيس الوزراء في إثيوبيا أن يكون جزءا من الصراع الموجود في الخليج العربي، كما أنه يرفض كذلك أن تقوم جهة معينة بالإملاء عليه فيما ينبغي فعله، ولكنه يحاول كذلك إقامة الجسور مع الجميع .

تحاول الإمارات العربية المتحدة أن تجعل إريتريا بديلا عن جيبوتي، ولكن النظام الإثيوبي لا يستطيع أن يستغنى عن جيبوتي لسببين، الأول يكمن نوعية الموانئ الجيبوتية المتطورة، وسهولة التعامل مع هذه الموانئ، ووجد علاقات جيو سياسية بين الدولتين منذ زمن الإمبراطور منيليك، أما الأمر الثاني هو مرتبط بوجود جغرافيا جاذبة في جيبوتي، وهي القرب الجغرافي، وسهولة الأراضي المنبسطة والواقعة بين جيبوتي والعواصم الهامة في إثيوبيا كأديس أبابا العاصمة، ومدينة ( نازريت ) عاصمة الإقليم الأورومي، ومدينة ديريدوا الإستراتيجية، وهي مدينة لها حالة إدارية خاصة وتقع تحت إرادة القوميتين الصومالية والأورومية .

طالبت إثيوبيا الحديثة بناء أربع موانئ في الصومال، ذلك لأن إثيوبيا تسعى في إقامة سوق إقليمي كبير في المنطقة، وليس من الإمكان أن تسد هذه الثغرة دولة واحدة بموانئها، ولهذا تؤكد ضرورة التجاوز لتداعيات المرحلة السابقة، وإقامة مرحلة جديدة تقوم على سياسة ( نربح ) جميعا .

تسعى الولايات المتحدة في صناعة البديل الممكن عن جيبوتي؛ حيث تحولت الأخيرة إلى حليف إستراتيجي للصين، وليس من الممكن كما أكد أكثر من مسؤول أمريكي الوثوق بسياسة جيبوتي، و التي قد تحمل المفاجآت، ويمكن أن تقطع علاقتها الإستراتيجية مع أمريكا حين تتأكد من علاقتها المتينة مع الصين كما فعلت مع شركة دبي العالمية للموانئ، ولهذا فلا بد من بديل محتمل، والبديل الأفضل هي إريتريا الواقعة قريبا من مضيق باب المندب، ولها جزر ذات أهمية إستراتيجية في وسط البحر الأحمر، ولهذا ضغطت على الإمارات في إعداد البديل عن جيبوتي، ولكن ما زالت إثيوبيا واعية بأن البديل عن جيبوتي صعب للغاية .

تسعى جيبوتي أن لا تتأخر عن الركب، ومن هنا طالبت وبقوة السعودية أن تقوم بمصالحة ما بينها وبين إريتريا، ولكن الأخيرة ترى بأنه لا وجود لخلافات بينهما، ونجحت السعودية جمع الزعيمين في جدة قبل ثلاثة أسابيع، ولكن الأخبار أكدت بأن اللقاء كان في إطار المجاملات السياسية فقط، وتفعل جيبوتي كل ذلك، لأنها تشعر مدى قوة الحرب عليها من قبل ( دبي )، وشركتها العملاقة، ومن المعروف أن جيبوتي قامت بتأميم الشركة التي تدير ميناء دورالي للحاويات، وألغت من قبل العقود المبرمة ما بين جيبوتي والشركة .

سعت شركة دبي العالمية للموانئ من قبل لجعل ميناء ( بربرا ) في شمال الصومال ( الصومال لاند ) المنفصلة عن جمهورية الصومال، وغير المعترفة دوليا بديلا محتملا عن جيبوتي، ولكنها فشلت في ذلك لأسباب سياسية، ومن هنا فهي تريد إقامة مشروع يخنق جيبوتي اقتصاديا، وأعلن رئيس الشركة في مؤتمر صحفي بأن دبي سوف تعيد جيبوتي إلى ما قبل التاريخ، وهذا تهديد واضح، ولكن هل هذا يمكن له؟

في رأيي إن ذلك غير ممكن له، ويدل أيضا عدم معرفته للواقع الإستراتيجي في المنطقة، وأهمية جيبوتي تاريخيا للاقتصاد الإثيوبي، كما أن جميع المتغيرات في المنطقة تشير بأن تغول الإمارات غير واقعية، وأن زمن صفقة القرن انتهى، ولهذا فلا مستقبل لتغوّل الإمارات على الموانئ في القرن الأفريقي .

قد تكون المنطقة مجالا لتصادم المصالح ما بين القوى الكبرى، وقد تكون مجالا للتنافس، ولكن كل ذلك يعود إلى نوعية القيادة في المنطقة، ونحن اليوم نرى بأن القيادة في إثيوبيا تسعى في الاستفادة مع الجميع، وتبتعد عن سياسة الاصطفاف، ومع هذا فإن الرياح قد تجرى بما لا تشتهي السفن.

عبد الرحمن بشير

الشيخ عبد الرحمن سليمان بشير من جمهورية جيبوتى، داعية، ومثقف ، وناشط سياسي، وباحث فى الشؤون الإجتماعية، وقضايا القرن الأفريقي، خريج كلية الشريعة والقانون، عمل فى السلك التعليمي، والقضائي، والإنساني، ومارس الخطابة منذ نعومة أظفاره، وما زال، وله مقالات حول الدين والسياسة والفكر، ويعيش الآن فى كندا، ويعمل فى رفع الوعي فى القرن الأفريقي، والجالية الإسلامية والصومالية والجيبوتية فى المهجر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى