الحركة الدبلوماسية في العصور الإسلامية ودور العلماء في منطقة القرن الإفريقي (2)
وقد أشرنا في الحلقة الماضية إلى رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى بلاد الحبشة وملكها وما كانت تحمل في طياتها، وعرفنا أنّها كانت جزءاً من الكتب والرسائل التي بعث بها الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى مختلف الأقطار المعروفة في تلك الفترة ، فكانت أرض الحبشة إحدى هذه الأقطار بل من أهمها؛ حيث كان يحكمها ملك عظيم أشار النبي إلى عدله وإنصافه بين رعيته، ولأجل ذلك أوصى صحابته الذهاب إليها قائلاً لهم: – لما رأى المشركين يؤذونهم ولا يستطيع أن يكفهم عنهم – ” إن بالحبشة ملكا لا يظلم عنده أحد ، فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجا “، فكان أول من خرج منهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم، علماً أنّه لم يوص بأن يذهبوا إلى مكان آخر غير منطقة القرن الإفريقي مثل يثرب – المدينة النبوية – والتي هاجر إليها نفسه فيما بعد؛ لأنّها لم تكن في تلك الفترة مهيأة للجوء والعيش فيها بسبب الحروب والنزاع بين القبائل كالأوس والخزرج ، بالإضافة إلى أن اليهود كانوا يسيطرون على زمام أمرها، كما أنّ الرسول- صلى الله عليه وسلم – لم يوص الذهاب إلى الروم؛ لأنّ قيصر الروم كان جبّاراً، وقد آذى من خالف مذهبه في المسيحية من رعايته ، فكيف يكون من يخالف دينه وعقيدته وهم أتباع محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم – كما أنّه – صلى الله عليه وسلم –لم يوص أتباعه الذهاب إلى أرض الفرس؛ لأنّ حاكمها كسرى في منتهى الكبرياء والعناد لا يرى إلا ما تراه عيناه. وعرفنا فيما بعد كيف مزق رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – إليه بانفعال وأنفة، وعلى إثرها دعا النبي عليه بأن ” يمزق الله ملكه ” وقد حدث في فترة وجيزة رغم عتاقة الإمبراطورية الساسانية الفارسية وعراقتها.
أما اليمن رغم قربها ومشاركة أهلها باللغة والعادات والتقاليد لم يشر الرسول أن يلتجئوا إليها؛ لأنّ اليمن لم تكن مستقلة، وكانت أيادي خارجية كثيرة تلعب في أمرها واستقرارها، بحيث كان تتجه أنظار كل من الإمبراطورية البيزنطية وعرب الغساسنة والحبشة من جهة ، والإمبراطورية الساسانية وعرب المناذرة في الحيرة من جهة أخرى، بالإضافة إلا ذاكرة حادثة أهل نجران وما جرى فيها من التعذيب والتنكيل لأجل عقيدتهم، كل ذلك برهن أنّ وصية رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كانت على إلهام من الله سبحانه وتعالى بحيث أنّ شخصية الرسول لم تكن وحدها تدرك كل هذه الأمور وتلخصها لولا موافقة الله سبحانه وتعالي، مما يؤكد بأنّه ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (
ومهما كان فإنّ النجاشي نفسه أرسل رسالة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يجيب فيه رسالته الأولى التي تلقها من قبل بعد ما دخل في دين الله وأسلم على يد الصحابة – رضوان الله عليه – وعلى رأسهم سيدنا جعفر بن أبي طالب، كما سيظهر في سياق جواب النجاشي والتي وردت في المصادر التاريخية الأولية ، والجواب جاء على نحو الآتي:
” بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحم بن ابجر، سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته لا اله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام، فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت. وقد عرفنا ما بعثت به إلينا وقرينا ابن عمك وأصحابه، فاشهد أنك رسول الله صادقاً ومصدقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين. وقد بعثت إليك يا نبي الله باربحا بن الأصحم بن ابجر، فاني لا أملك إلا نفسي، وان شئت أن أتيك فعلت يا رسول الله فإني أشهد أن ما تقول حق”.
ورغم أنّ دولة الإسلام في المدينة المنورة بقيادة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كانت حديثة العهد وأقل خبرة في النواحي الإدارية والتنظيمية إذا قورن بالمستويات الإدارية العالية، وأجنحة الدواوين والمراسم الراقية التي كانت تتمتع لبعض الدول كالإمبراطورية البيزنطية والساسانية والحبشية، ورغم ذلك كله إلا أنّ أول محاولات الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالاتصال لهؤلاء وإبلاغ أمره كانت لها صداها الديني والدبلوماسي والسياسي، بل وزلزلت بعض العروش، كما حصل في بلاط الإمبراطورية الساسانية الفارسية عند ما وصلت إليهم رسالة النبي، لم يستطع كسراها الصبر والتعامل مع الأمر الواقع بالحنكة والعقلانية، بل وكان ردّ فعله بمثابة فاقد الثواب والعقل، وقام بالاتصال إلى عامله في اليمن يأمره القبض على النبي واعتراض دولته الجديدة، مما يدل على تأثير الرسالة ووضوح أهدافها، بالإضافة إلى ضعف قيادة الفرس وعدم قراءة ما يجري حولهم والقوى الصاعدة بدءاً في مكة ثم وصول الصحابة إلى أرض الحبشة وإيواء ملكها وحمايتهم، ثم صعود نجم الإسلام ووصول النبي وصحابته إلى يثرب التي تحولت إلى كيان جديد له ثقله على المنطقة.
وهكذا لم تنتهِ جبروت كسرى وسطوته وكبرياؤه – كما أشرنا من قبل – بل كتب إلى (باذان ) نائبه على اليمن رسالة يطلب منه أن ابعث إلى النبي – صلى الله عليه وسلم هذا الرجل الذي ظهر بالحجاز رجلين جلدين من عندك ، ومرهما أن يأتياني به .. فبعث باذان رجلين من خيرة رجاله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحملهما رسالة له ، يأمره فيها بأن ينصرف معهما إلى لقاء كسرى دون إبطاء.
خرج الرجلان يغذان السير حتى لقيا النبي صلى الله عليه وسلم، ودفعا إليه رسالة (باذان) وقالا له :
إن ملك الملوك كسرى كتب إلى ملكنا (باذان) أن يبعث إليك من يأتيه بك … وقد أتيناك أتنطلق معنا إليه ، فإن أجبتنا كلمنا كسرى بما ينفعك ويكف أذاه عنك، وإن أبيت فهو من قد علمت سطوته وبطشه وقدرته على إهلاكك وإهلاك قومك، فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لهما : ارجعا إلى رحالكما اليوم وأتيا غدا .. فلما غدوا على النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي ، قالا له : هل أعددت نفسك للمضي معنا إلى لقاء كسرى ؟ فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : لن تلقيا كسرى بعد اليوم .. فلقد قتله الله؛ حيث سلط عليه ابنه (شيرويه) في ليلة كذا من شهر كذا .. فحدقا في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وبدت الدهشة على وجهيهما ، وقالا : أتدري ما تقول ؟ أنكتب بذلك لباذان ؟ قال : نعم ، وقولا له : إن ديني سيبلغ ما وصل إليه ملك كسرى ، وإنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك، وملكتك على قومك.
خرج الرجلان من عند الرسول صلى الله عليه وسلم وقدما على ( باذان) وأخبراه الخبر ، فقال : لئن كان ما قاله محمد حقا فهو نبي ، وإن لم يكن كذلك فسنرى فيه رأيا .. فلم يلبث أن قدم على (باذان) كتاب (شيرويه) ويقول فيه: ” أما بعد فقد قتلت كسرى ، ولم أقتله إلا انتقاما لقومنا ، فقد استحل قتل أشرافهم و سبي نسائهم ونهب أموالهم ، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن عندك . فما إن قرأ (باذان) كتاب (شيرويه) حتى طرحه جانبا وأعلن دخوله في الإسلام ، وأسلم من كان معه من الفرس في بلاد اليمن .
الجدير بالذكر فإنّ العلاقات الدبلوماسية والبعوث المرسلة إلى منطقة القرن الإفريقي ولاسيما إلى إمبراطورية أكسوم الحبشية لم تكن تقتصر من جانب المسلمين بقيادة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإنّما حاول كفار مكة وصناديد قريش قبل ذلك وأكثر من مرة، بغية إعادة الجماعة المسلمة التي فرّت من طغيانهم وجبروتهم بحثاً عن مكان آمن يعبدون الله وحده دون ضغوط، بحيث كانت قريش تصرّ على جبروتهم وإعادة المسلمين إلى مكة، وفي سبيل تحقيق هذا الغرض أرسلت قريش وفداً رفيع المستوى مع هدايا وتحف ثمينة لتوزيع بطانة النجاشي ومساعديه ثم النجاشي نفسه ليسهل الأمر، لذلك ومنذ أن وطأت أقدام صحابة النبي إلى أرض الحبشة كانت قريش تقوم بالاتصالات الدبلوماسية هدفها تقوية العلاقة بين سلطان قريش وبين الإمبراطورية الحبشية، ثم إمكانية إعادة المهاجرين من أرض الحبشة إلى موطنهم الأصلي ليكونوا تحت سيطرة قريش. وكل هذه المحاولات والاتصالات كان من جانب قيادة قريش في المرحلة المكية التي كان النبي بمكة.
وهكذا قررت قريش إرسال وفد إلى الحبشة للضغوط على هؤلاء الفارين من قبضتهم حتى يعودوا مرة أخرى إلى مكة ليفتنوهم في دينهم، وليخرجوهم من دارهم في الحبشة التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها، وفعلاً وصل هذا الوفد برئاسة عمرو بن العاص الأموي إلى الحبشة، ويقال كان معه عبد الله بن أبي ربيعة، وقيل كان معهما رجل ثالث اسمه عمارة بن الوليد ، ومهما كان فإنّ هذا الوفد كان يتمتع بشيء من الحنكة والذكاء بحيث لم يدخل ابن العاص ورفقاؤه على النجاشي مباشرة، بل ذهب أولاً إلى بطارقته، وإلى رجال الدين والوزراء وكبار القوم، والذين يجلسون عادة في مجلس النجاشي يشيرون عليه بالرأي، ذهب إليهم وقد ملأ أيديهم جميعًا بالهدايا العظيمة، ثم بدأ يطرح عليهم طلبه مرفقًا به حجته الدامغة؛ وذلك بهدف الوقوف معه ضد المسلمين أمام النجاشي.
وبهذه الدبلوماسية والدهاء نجح الوفد بمهمته خير نجاح بقيادة عمرو، بل وقبلوا منه جميعًا الهدايا، وسمعوا لرأيه واقتنعوا بفكرته، وبذلك يكون قد مهَّد الطريق تمامًا للحوار مع النجاشي. وتروي الأخبار بأنّ عمر بن العاص دخل على النجاشي، وفور دخوله أهداه هدايا عظيمة قبل أن يفتتحها الحديث معه، وبعد أن اطمأنَّ عمرو بن العاص قبول الهدية شرع أن يعرض هدف زيارة الوفد بوجود جميع البطارقة والأعوان معه، وكان ينتقي كلماته بدقة شديدة وبحكمة عظيمة، فقال: ” أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدينٍ ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثَنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم؛ فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه”..
وبعد ما سمع النجاشي هذا الحديث من وفد قريش استدعى المسلمين ليسمع منهم الجواب كعادة الملك العادل الذي لا يكتفي فقط بما يسمع حواشيه وأقرب الناس إليه فضلاً عن غيرهم، وحضر المسلمون على بلاط الملك بحضرة أعوانه وأساقفته بالإضافة إلى وفد قريش، وقد بدأ الملك الحديث حيث وجه إليهم سؤالاً وجيهاً قائلاً: ” ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الأمم؟” ، وكان الجواب أول لبنة الإسلام وأسسه في المنطقة، وذلك حين قال جعفر : ” أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئًا..”
وللحديث بقية..