الحركة الدبلوماسية في العصور الإسلامية ودور العلماء في منطقة القرن الإفريقي (4)

وبعد أن لحق المصطفى – صلى الله عليه وسلم – بالرفيق الأعلى استمرت مسيرة الدولة الإسلامية الفتية رغم قلة خبرتها، واجتهد الخلفاء الراشدون باتباع أثر نبيهم – صلى الله عليه وسلم – واقتداء به، بالإضافة إلى تطوير نظام الحكم وبسط النفوذ المسلمين، ومن هنا سلكوا مسلك الرسول من إرسال الرسل والبعوث إلى آفاق مختلفة لتحسين العلاقة مع الآخر وخلق جو ودي تعاوني مناسب لنشر رسالة الإسلام وحضارته السامية بطريق سلمي.
ورغم بروز جبروت قادة الفرس والروم إلا أنّ الخلفاء المسلمين أصروا على تنفيذ سفراء اشتهروا بالشجاعة البالغة وذكاء الحوار بالإضافة إلى الفصاحة ووضوح الكلام، وخاصة في عهد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – الذي كان حاول خلق علاقة طيبة رغم تهديد الفرس والروم على دولته مباشرة تارة ، وعن طريق تحريض القبائل المجاورة تارة أخرى، ومع ذلك أعطى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب اهتمامه بالاتصال والحوار مع الآخر، بالإضافة إلى تحسين النظام الداخلي لدولته؛ حيث أنشأ عدداً من الدواوين لم تكن موجودة من قبل مثل ديوان الرسل، وهو ديوان كان يتضمن الرسائل التي ترسل أو تأتي بواسطة الرسل والمبعوثين.
وليس من الغرابة أن يشترك بيت الخليفة وأسرته في تعزيز نهجه في عقد علاقة طيبة مع الإمبراطورية البيزنطية، كما فعلت السيدة أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وهي زوجة خليفة عمر بن الخطاب بدور هام في الدبلوماسية بين العرب والروم، بحيث اتصلت بامرأة ملك الروم قسطنطين الثاني وأرسلت هدايا عبارة عن طيب وما يصلح لاستعمال النساء عبر بريد الخلافة إلى الإمبراطورية، ولا شك أنّ الاتصال غير المسبوق من قبل المسلمين قد قوَّى العلاقة بين الطرفين وفتح باباً للحوار والاتصال المباشر ، بل بعد قبول زوجة الملك أرسلت بدورها إلى زوجة الخليفة أم كلثوم مجموعة من هدايا ذات ثمن باهظ مثل عقد فاخر. ويبدو أن هذه المراسلات قد أثرت إيجابياً تجاه العلاقات بين الجانبين.
ولكن العدالة العمرية ونهجه في اهتمام أموال المسلمين وحرصه على حفظها، بل وشدة محاسبته نفسه وأهله قبل رعيته كانت تجرى مجراها ، ومن هنا فلما رجع بريد الخلافة أخذ عمر ما حمل البريد لزوجته من الهدايا وقال: ” لكن الرسول رسول المسلمين والبريدُ بريدهم”، وذلك ردّاً على من قال ” هو لها بالذي كان لها، وليس امرأة الملك بذمة فتصانعك به، ولا تحت يدك فتتقيك “، ومع ذلك ردّ عمر كل ما عندها إلى بيت المال المسلمين، وأعطاها بقدر نفقتها. (الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 4/260؛ وانظر عبد الشافي محمد عبد اللطيف: السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، ص 284).
وكان ابن الخطاب – رضي الله عنه – يحرص دائماً على استقرار الخلاقة واستتاب الأمن في جميع الأمصار وخاصة على الثغور، ولم يكن راغباً أن يتوسع بالفتح بعد فتح الشام والعراق، بل وصل الأمر إلى أن قال عن بلاد فارس: ” وددت لو أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم، “. ولم يكتف إلى هذا الحد بل أعطى أوامره إلى بعض قادة الأمصار مثل معاوية بن سفيان ونهاهم أن يركبوا البحر غازياً للروم، مما يدل على أنّه كان يريد أن تأخذ الدبلوماسية والحوار طريقها، وفعلاً عند ما نجحت خطته الدبلوماسية في عدم استمرارية الحرب تفهم الموقف وفتح صفحة جديدة بحيث نشطت الحركة الدبلوماسية حتى وصلت رسل الملك إلى المدينة المنورة.
وأنجز الخلفاء الراشدون إرسال بعوثاً كثيراً إلى الدولتين الكبيرتين الفارسية والرومانية بالإضافة إلى بعض كيانات عربية كالمناذرة في الحيرة وكذا عرب الغساسنة وغيرهم.
وهكذا كان دأب المسلمين يحرصون على الاستقرار وعدم اصطدام، بل غالباً كانوا يتبادرون إلى إرسال الرسل وفتح الحوار، كما أشرنا من قبل، ومن ناحية أخرى لم يكن المسلمون يترددون على قبول الحوار والجلوس مع الخصم إذا مدّ يده للتفاوض، ويؤكد على ذلك عند ما أراد الفرس من المسلمين أن يرسلوا لهم من يتفاوض معهم ويحاورهم لم يتردد المسلمين في تنفيذ ذلك وقام قائد الجيش المسلمين في جهة الفرس سيدنا سعد بن أبي وقاص إرسال أحد شجعان المجاهدين، وهو الصحابي ربعي بن عامر، وعند ما وصل إلى مقر إقامتهم دخل ربعي على رستم قائد الفرس وقد زيَّنوا مجلسه بالنَّمارق المذهَّبة، والزَّرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، في حين أنّ ربعي بن عامر كان بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، وحين سألوا ما جاء بكم، قال قولته المشهورة ” الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى سعَتَها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإِسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه“.
أما في عهد الخليفة عثمان بن عفان – رضي الله عنه – فكانت تمتاز فترته بأنّ الخلافة اهتمت الجوانب الدبلوماسية والعلاقات الخارجية بحيث خصصت مبالغ معينة من بيت المال لاستقبال الرسل الأجانب وتغطية نفقات إقامتهم، وهو أمر لم يكن يتوفر للإمبراطورايات المتطورة في تلك العهود وحتى في العصور المتأخرة فيما بعد.
واشتهرت العلاقات الدبلوماسية الناشطة بين الخلفاء الأمويين والبيزنطيين، وأرسل عبد الملك بن مروان القاضي شرحبيل الشعبي وهو من مشاهير التابعين إلى الإمبراطور البيزنطي جستنيان الثاني وقد أثنى الإمبراطور جستنيان على لباقة الشعبي وحكمته وحسن سفارته.( الصفدي، خليل بن أبيك التوفي 764ه: الوافي بالوفيات، دار إحياء التراث العربي، عام 2000م، 5/ 323(.
وفي عهد الخلافة العباسية اشتهر أيضاً هارون الرشيد بنجاحاته الدبلوماسية نحو السلام والوئام ، وقد نجح عقد معاهدة السلام مع الإمبراطورة البيزنطية أريني بحيث تبادل بين الظرفين علاقات طيبة، واستمرت الخليفة وفاء العهد غير أن الإمبراطورية نقضت العهد عند ما تراجعت المعاهدة ، ومع ذلك لم يكن ذلك سبباً لعدم مضي في عقد معاهدات دبلوماسية مع الآخرين، بحيث تحول هارون في علاقاته الدبلوماسية إلى الأباطرة الرومان الغربيين (الفرنجة) الذين بدؤوا مع شارلمان في آخن بألمانيا، وأرسل هارون الرشيد وفداً من المبعوثين، معهم الكثير من الهدايا والابتكارات الإسلامية العلمية مثل الساعة الميكانيكية الدقاقة، وكذلك لعبة الشطرنج، وبدوره أبدى شارلمان وحاشيته إعجابهم بتلك الهدايا القيمة وبما وصل إليه المسلمون- وقتذاك، من اختراعات وحضارة وتقدم. ( د. محمد حبش: الإسلام والدبلوماسية قراءة في القيم الدبلوماسية في الإسلام، ص 30).
ويذكر أن الساعة كانت مصنوعة من النحاس الأصفر بارتفاع نحو أربعة أمتار وتتحرك بواسطة قوة مائية، ويقال أن الساعة قد أثارت دهشة الملك وحاشيته، وعند ما حصل للساعة عطل عرض شارلمان على بعض مستشاريه أن يخاطب الخليفة هارون الرشيد ليبعث فريقاً عربياً لإصلاحها فقال شارلمان قوله المشهورة تجاه ذلك: “ إنني أشعر بخجل شديد أن يعرف ملك بغداد أننا ارتكبنا عارا باسم فرنسا كلها“.
ومن ناحية أخرى فإنّ العباسيين عرفوا نظام المراسم واستقبال الرسل والاحتفاء بهم، إذ كانوا يخصون السفير ومرافقيه باستقبال حافل على الحدود ومرافقته حتى دخول العاصمة، حيث يجد بانتظاره شخصية سامية، وينزل ومرافقه قي قصر الضيافة، وقد جرت العادة على أن يستقبل السفير من قبل وزير مكلف بالمهمة ويحدد معه موعد لمقابلة الخليفة وعندما يحظى بمقابلة أمير المؤمنين يقدم له كتاب رئيس دولته، ومن ثم الهدايا التي يحملها له. كما كان الخلفاء يرسلون سفراء لحاجة الدولة ولتحقيق هدف ما ، كما فعل الخليفة العباسي المتوكل حيث أرسل الخليفة المتوكل هذا نصر بن الأزهر سفيراً إلى إمبراطور الروم ميخائيل الثالث لدراسة موضوع تبادل الأسرى وقبول الفداء بين المسلمين ودولة الروم. وقد نجح هذا السفير في مهمته وافتدى 2300 أسير من المسلمين كانوا في بلاد الروم. ( د. محمد حبش: الإسلام والدبلوماسية قراءة في القيم الدبلوماسية في الإسلام، ص 32).
وفي عهد الخلافة العثمانية حدث تطور كبير في الدبلوماسية الإسلامية بحكم العصر المتأخر والاحتكاك بني عثمان بالعالم الخارجي، ومن أهم التطورات الدبلوماسية ما أنجزه السلطان العثماني الشهير سليمان القانوني الذي كان يؤمن بدور الدبلوماسية ويسعى لتحرير أصولها وقواعدها، وقد نجح في عقد سلسلة اتفاقات مع الملوك الأوربيين لضبط العلاقات الدبلوماسية، أشهرها اتفاقية عام 1535 مع الملك الفرنسي فرانسوا الأول والتي نظم بها شكل العلاقات الدينية والحج المسيحي إلى الأماكن المقدسة في فلسطين.
وللحديث بقية..