الحركة الدبلوماسية في العصور الإسلامية ودور العلماء في منطقة القرن الإفريقي (5)
منطقة القرن الإفريقي والدبلوماسية الإسلامية:
إذا كانت من طبيعة الخلافة الأموية إرسال البعوث والجيوش إلى أطراف مختلفة من جسم الخلافة الأموية المترامية الأطراف فإنّ بلاد الحبشة وصلت بعوث من قبل مركز الخلافة في عهد عبد الملك بن مروان بعد عصري النبي صلى الله عليه وسلم والراشدين، على الرغم من أنّ هذه البعثة كانت ذات طابع عسكري إلا أنّ هدفها الرئيسي كان دعوي واستمرار انتشار الإسلام واستتاب الأمن والاستقرار في كيان الخلافة، وهذا الأمر لم يكن غريباً؛ لأنّ الخليفة عبد الملك بن مروان أوفد عامر الشعبي التابعي المعروف سفيرا إلى الإمبراطور البيزنطي ” جوستنيان الثاني ” في العام 70 للهجرة؛ وذلك لحل بعض المنازعات وتوطيد العلاقات بين الطرفين.
وقد أثنى الإمبراطور في كتابه إلى الخليفة على لباقة سفيره الشعبي ومهارته وحنكته وفصاحته ونجاحه في إدارة الحوار والوصول إلى حلول مقبولة لدى الطرفين. ثمّ بعد فترة وجيزة بعث الخليفة عبد الملك بن مروان أيضاً مجموعة كبيرة ولكن هذه المرة إلى منطقة القرن الإفريقي بقيادة أمير موسى بن زبير بن خثعم الكندي وذلك في سنة 75ه، بهدف تثبيت أركان الخلافة ومد سيطرتها إلى أنحاء الصومال والبلاد المجارة في منطقة شرق إفريقيا، و لا شك أنّه قد بذل الأمراء الأمويون أقصى ما لديهم من الجهد لنشر الإسلام واستتاب الأمن في المنطقة، وكان آخرهم الأمير محمد بن عبد الرحمن.
والحقيقة أن ما قامت به(الخلاقة الأموية) من إرسال هذه البعوث لم يخل من هدف دعوي لنشر الإسلام وبسط نفوذه في أنحاء كثيرة من المنطقة أكثر من هدف عسكري جهادي، ويقال أنّهم أسسوا مراكز دينية لنشر تعاليم القرآن، بل وتعزيزاً لهذا الأمر فقد بعث الخليفة إلى المنطقة أيضاً جماعة من أهل الشام وذلك في سنة 77ه. وبفضل هذه الجهود دخل أهالي المنطقة في دين الله أفواجاً والتزموا تعاليم الدين الجديد.( غيثان بن على بن جريس : الهجرات العربية إلى ساحل سرقي إفريقية في العصور الوسطى ,وأثارها الاجتماعية والثقافية والتجارية، ص 17 – 18)
وفيما بعد شد اهتمام الخليفة عبد الملك بن مروان بالمنطقة وبالتالي عين أخاه حمزة على رأس بعثة دينية إلى شرق إفريقية – وقيل عين ابنه جعفر بن عبد الملك – ومهما يكن فإن الدولة الإسلامية كانت تعطي اهتماماً كبيراً لنشر الإسلام في بلاد الصومال خاصة وساحل الشرق الإفريقي عامة.
واستمرت الدبلوماسية الإسلامية في أداء دورها الدعوي والإنساني وتطويره في العصر العباسي، وخاصة أيام أبي جعفر المنصور بحيث أرسل وفداً رفيع المستوى إلى سواحل إفريقيا الشرقية وبالذات مدينة مقديشو التي تطل على المحيط الهندي، وكان هذا الوفد تحت قيادة يحي بن عمر العنزي من أهل العراق في منتصف القرن الثاني من قبل الخليفة العباسي، ويقال إنّ مهمة الوفد كانت أن يوصل بريداً من الخلافة إلى كل المناطق في شرق إفريقيا، على الرغم من المصادر سكتت عن فحوى ما تضمن هذا البريد وإن كان يغلب الظنّ على تقوية العلاقة بين الجانبين، كما كان هدف الوفد أيضاً تفقد أحوال المنطقة وإرساء قواعد أركان الخلافة وبسط سيطرتها على المنطقة ، وهو ما تحقق بعد مجيء الوفد من النتائج الاقتصادية والسياسية؛ حيث كان حكام الصومال يبعثون الخراج إلى الخلافة، و يدعون للخليفة على المنابر. ( محمد حاج عمر: معالم الحضارة في شرق إفريقيا، ص 73 – 74(.
ولا يستغرب على ذلك؛ لأنّ بني العباس قد دأبوا إرسال الرسل والبعوث إلى أقطار مختلفة في العالم، ومن أشهر ذلك ما قام به خليفة هارون الرشيد من إرسال وفد من المبعوثين، معهم الكثير من الهدايا والابتكارات الإسلامية العلمية ـ ومنها الساعة الميكانيكية الدقَّاقة إلى ” شارلمان ” ملك الفرنجة، الذي أبدى هو وحاشيته إعجابهم بتلك الهدايا القيمة من قبل المسلمين – وقتذاك ـ من اختراعات وحضارة وتقدم. كما أرسل الخليفة المتوكل نصر بن الأزهر سفيرا إلى إمبراطور الروم ” ميخائيل ” لدراسة موضوع تبادل الأسرى وقبول الفداء بين المسلمين ودولة الروم، وقد نجح هذا السفير في مهمته وافتدى 2300 أسيراً من المسلمين كانوا في بلاد الروم.
الجدير الذكر أنّ أشهر البعثة الدبلوماسية في عهد بني العباس كانت الرحلة التي كان يقودها أحمد بن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة التي استمرت قرابة تسع شهور كاملة، وقد بلغ موضع لم يبلغه رحالة مسلم قبله، وقد كتب ابن فضلان خبر رحلته وما جرى فيها تدوينة اشتهرت بـ ” رحلة بن فضلان ” وهي عبارة عن رسالة كتبها ابن فضلان نفسه إلى الخليفة المقتدر بالله العباسي، ووصف فيها بلاد الترك والبلغار والروس والخزر وأيضاً البلاد الاسكندينافية، وهي رسالة في غاية الأهمية هنا في مملكة النرويج؛ لأنّها من أوائل المصادر التي تناولت القرصة الاسكندينافية بحيث التقى ابن فضلان في بلاد الروس، كما اشتكى الرحالة توقيت الصلوات وتزاحم بعضها ببعض في موسم الشتاء بسبب قصر النهار.
جهود العلماء في الحركة الدبلوماسية:
أما فيما يتعلق بمنطقة القرن الإفريقي فإنّ علماء المسلمين في المنطقة سواء كانوا من أهل الصومال أو غيرهم قد لعبوا أطواراً مختلفةً في أكثر من ميدان علمي حضاري، بحيث لم يكن يقتصر نشاطهم فقط في ميدان الدعوة ونشر العلم، فإنّما أيضاً أسهموا في أطوار مهمة أخرى بل وأبدعوا في أكثر من مجال، سواء في ميادين الجهاد والإنفاق في سبيل الله وإرساء منهجه على الأرض، وكذا إغاثة الملهوفين ومساعدتهم، كما قاموا مهمات سياسية عبر رحلاتهم الدبلوماسية العالية في سبيل خلق علاقات أخوية ذات طابع سلمي تعاوني لكسب تأييد القوى الإسلامية في العالم والوقوف معهم في صراعهم مع نصارى الحبشة بغية تثبيت الاستقرار والأمن، وفي هذا المنحى تحرك بعض العلماء في المنطقة نحو العالم الخارجي لتوضيح أوضاع المسلمين في المنطقة لدى الشعوب الإسلامية الأخرى وقادتهم سواء في الجزيرة العربية أو في بلاد الشام والعراق ومصر وغير وذلك.
ومن بين هؤلاء العلماء الذين قاموا بمساعي دبلوماسية الفقيه الفاضل رضي الدين أبو بكر بن عثمان بن علي الورلي نسباً، الشافعي مذهباً، العدلي بلداً، وقد أشار بعض المؤرخين إلى أنّ الفقيه الشيخ الورلي قدم على اليمن وخاصة إلى مدينة تعز رسولاً من قبل السلطان سعد الدين سلطان المسلمين في بلاد الحبشة في مطلع القرن الثامن يحمل الهدايا إلى الملك المنصور ابن الناصر الغساني. وربما اختير الفقيه الفاضل رضي الدين لأداء هذه المهمة بسبب كفاءته وقدرته وقويته؛ لأنّ ولاة الأمور بسلطنة عدل كانوا مطمئنين على أمانة الفقيه وصدق سريرته وحسن خلقه، وكذا فصاحة الفقيه وحسن بيانه، كما يظهر أنّه كان لديه معرفة سابقة عن اليمن وأحوالها السياسية. ومهما كان فإنّ مسؤولية السلطنة كانت حماية الدين ومدافعة الدور والبيض، وكان العلماء في مقدمة الصفوف المجاهدين؛ لأنّ أهل العلم – سواء أهل البلد الأصليين أو الذين وفدوا من العالم الخارج – كان لهم أيضاً دوراً قوياً في حركة الجهاد الإسلامي ضدّ هجمات حبشية نصرانية في منطقة القرن الإفريقي. وخير دليل على ذلك ما ذكره المؤرخ المقريزي عند حديثه عن الصراع بين المسلمين والمسيحيين في الحبشة قائلا: ” استشهد فيها من المشايخ الصلحاء أربعمائة شيخ كل شيخ منهم له عكاز وتحت يده من الفقراء والمساكين عدد عظيم”( المقريزي: الإلمام بأخبار الحبشة ، ص12 )
وقد اختلط الفقيه الفاضل رضي الدين الورلي بأقرانه العلماء ولاسيما الفقهاء، وشارك معهم بالعلم عبر الحلقات والمجالس العلمية بعد أداء مهمته الدبلوماسية الموكلة له، مما يدل على أنّ الفقيه أحب بيئة العلم والمعرفة في اليمن وخاصة في مدينة تعز التي قضى فيها ما تبقى من حياته حتى توفي سنة تسع وعشرين وثمانمائة الهجرية. ( البريهي، عبد الوهاب بن عبد الرحمن السكسكي اليمني: طبقات صلحاء اليمن المعروف بتاريخ البريهي، ص 211- 212)
وللحديث بقية..