الحركة الدبلوماسية في العصور الإسلامية ودور العلماء في منطقة القرن الإفريقي (6)
في هذه الحلقة نؤكد أنّ الفقيه الفاضل رضي الدين أبو بكر بن عثمان بن علي الورلي – الذي سبق ذكره في الحلقة الماضية – وغيره من المسلمين لم يكن وحدهم ممن قدم على اليمن رسلاً من قبل بلدانهم، وإنّما كذلك هناك أيضاً أكثر من دبلوماسي وصل إلى أرض اليمن يحمل رسائل وأخباراً من أقطار مختلفة بغية تقوية العلاقات بين اليمن وبين تلك الأقطار، مما يدل على أهمية القطر اليمني في العصور الماضية.
وإذا كانت بلاد الصومال قريبة باليمن جغرافيا، فإنّ هناك من أبحر إليها من مناطق بعيدة، كما فعل ذلك الموكب الصيني الذي قدم على اليمن من قبل ملك الصين وفي معيته ثلاث مراكب مشحونة، فيها كل هدايا العظيمة، وقيمته عشرون لكاً – أي ما يربوا مائة ألف أو عشرة ملايين – من الذهب، وعند ما وصل هذا الرسول الصيني إلى اليمن اتصل بالسلطان ناصر أحمد بن إسماعيل الذي استقبله بكل حفاوة وترحيب، ويقال عند ما دخل هذا الرسول على السلطان لم يفعل كغيره من تقبيل الأرض ونحو ذلك، بل اكتفى أن قال: ” سيدي صاحب الصين يسلم عليك، ويوصيك بالعدل في رعيتك” فقال له: ” مرحباً بك، ونعم المجيء جئت” . ثم أنزل الرسول دار الضيافة ، وبالغ في إكرامه، وكتب إلى ملك الصين كتاباً يقول فيه : ” الأمر أمرك والبلد بلدك” ، ثم أهدى إليه من الثياب السلطانية ، ومن الحيوانات البرية، جملة مستكثرة. ([1] – غاية الأماني في القطر اليماني ص 565)
ومهما كان الأمر فإننا نستشف مما سبق ذكره أنّ المسلمين – وفي مقدمتهم العلماء – قاموا بمهمات دبلوماسية رفيعة المستوى في سبيل خلق علاقات سياسية لكسب تأييد القوى الخارجية في سبيل الوقوف معهم تجاه صراعهم مع الحبشة بغية تثبيت الاستقرار والأمن ، وفي هذا المنحى تحرك بعض العلماء في المنطقة نحو العالم الخارجي لتوضيح أوضاع المسلمين في المنطقة لدى الشعوب الإسلامية الأخرى وقادتهم، وهو الأمر الذي سوف نتناول بالتفصيل فيما بعد إن شاء الله.
اللجوء السياسي:
من المصطلحات السياسية الدبلوماسية مصطلح اللجوء السياسي وهو – أي اللجوء السياسي – مفهوم قضائي قديم يقضي بإعطاء الشخص الذي يتعرّض للاضطهاد بسبب آرائه السياسية أو المعتقدات الدينية في بلده والتي قد تكون محمية من قبل سلطة أخرى ذات سيادة، كما أنّ ذلك يحدث عند ما يتمّ الاحتلال على بلد ما ويتولى المحتل على مقاليد الحكم في بلد محتل.
ومن هنا وصل إلى اليمن من منطقة القرن الإفريقي ولدا السلطان سعد الدين فارين من الحرب، وذلك في عام 825ه عند ما ارتفع الصراع بين المسلمين بقيادة السلطان سعد الدين ونصارى الحبشة، ولما بلغت ضراوة الحرب أقصاها واشتدّ هجمات النصارى على المسلمين فرَّ أبناء السلطان سعد الدين المجاهد من الحبشة بعد هزيمة المسلمين على أيدي المشركين، فوصلوا إلى بندر البقعة ثم إلى مدينة زبيد، وكان السلطان الناصر في مدينة تعز وفور سماعه خبر الهزيمة ومجيء أبناء سعد الدين نهض السلطان الناصر إليهما من تعز، فأكرمهما وجهزهما بمائتي فرس، وما يتبعها من آلة الحرب، إلى وطنهما ، فقويت شوكتهما. وهكذا كانت علاقة القرن الإفريقي بالجزيرة العربية وخاصة القطر اليمني الذي يختلف عن غيره بحكم العامل الجغرافي، كما كان أهل المنطقة يلتجئون إليها كلما يشتدّ الأمر وساءت أحوالهم؛ لأنّ المنطقة كانت تشهد صراعاً مريراً بين المسلمين و الأحباش النصارى فترة طويلة، وكان أهل اليمن يمدّوا يد العون لإخوانهم المسلمين حتى لو كانت أوضاعهم الاقتصادية سيئة، بدليل عند ما وصل أبناء سعد الدين إلى اليمن كانت الوضع غير مستقر بسبب ارتفاع الأسعار ارتفاعاً عظيماً، وجاع الناس جوعاً شديداً، وأنفقت أهل اليسار على أهل العسار نفقة عظيمة، وهذه الأزمة تعاون فيها أهل الخير والإحسان أيضاً حتى قيل إنّ أحد الفقهاء المحسنين وهو الفقيه الفاضل الشيخ إسماعيل بن إبراهيم بن عجيل صاحب تهامة أطعم في ليلة واحدة ثلاثة آلاف نفس. ( يحيى بن الحسين بن القاسم بن محمد بن علي ( 1100هـ) : غاية الأماني في أخبار القطر اليماني، 1/565 )
الأدوار الدبلوماسية مع مصر:
وفي مجال العلاقات الدبلوماسية والحنكة السياسية نستطيع بالقول بأنّ بلاد اليمن لم تكن الجهة الوحيدة التي توجهت إليها البعثة الدبلوماسية من قبل قادة المسلمين في منطقة القرن الإفريقي، بل كان هناك بعثات أخرى وصلت إلى الديار المصرية وغيرها، مثل تلك البعثة التي ترأسها فضيلة الشيخ الفقيه عبد الله الزيلعي التي وصلت إلي القاهرة عند ما أسند سلطان المسلمين في بلاد الحبشة إلى الشيخ عبد الله الزيلعي هذه المهمة عام 738ه الموافق 1337م، وكان الهدف من هذه البعثة نفس الهدف من سابقتها في أن تتدخل السلطات المصرية لإيقاف نزيف دماء المسلمين والحملات الحبشية ضدهم، وأن يقوموا بدعم قضيتهم العادلة. (محمد حسين معلم علي: الثقافة العربية وروادها في الصومال، ص 154.)
والمعلوم أنّ الأمر لم يكن هينا، وقد وصل تصرف الأحباش واضطهادهم حداّ جعله يقرر ويأمر بأن تنصر له إحدى بنات ملوك المسلمين في بلاد الزيلع، وأن تحمل إليه كل عام. فكان يتم ذلك خوفاً من عدوانه على المسلمين وقتلهم وحرق ومساجدهم إذا امتنعوا عن ذلك، كما وصل الأمر إلى أن يجبر قادة الأحباش النصارى أن يجبروا المهزومين من قواد المسلمين وأمرائهم على التنصر في حالات كثيرة. ويكفي أن نشير إلى ما كتبه أحد قواد الأحباش للإمام أحمد منتهزاً فرصة اقتراب جيوش الإمام منه قائلاً له في رسالته: ” أنا – من أول – مسلم وابن مسلم وأسروني المشركون ونصروني، وأن قلبي مطمئن بالإيمان، والآن أنا جار الله وجار رسوله وجارك أن تقبل توبتي، ولا تؤاخذني بما عملت، فأنا تائب إلى الله …..”، وهذا الكلام يبرهن على الروح الصليبية التي كانت تسيطر على الأحباش في ذلك الحين، بالإضافة إلى مستوى الظلم والاضطهاد الذي أصاب المسلمين في المنطقة.
( رجب محمد عبد الحليم: العلاقات السياسية بين مسلمي الزيلع ونصارى الحبشة في العصور الوسطى ص 123 – 125)
ومن هنا قد استحق الشيخ عبد الله الزيلعي قيادة هذه البعثة، ليس بكونه راوية أخبار الجهاد مع الأحباش النصارى فحسب، وإنّما لرجاحة عقله وصفاء تفكيره وبما كان يتمتع من علم واسع وعقلية فائقة ، بالإضافة إلى كونه من جملة العلماء الفقهاء العاملين ذوي المكانة الكبيرة في مجتمعهم حتى وصل خبره إلى بلاط سلطنة إفات ، ومن ثمّ كلف هذه المهمة ذات طابع دبلوماسي. وهذا دليل على أن علماء المسلمين كانوا يلعبون أدواراً مختلفة ولم تكن مهمتهم تقتصر على نشر العلم وتربية الأجيال بل كان لهم أيضاَ دور في القضايا السياسية إذ إن العالم جزء من المجتمع ولا ينفك عنه بأي حال من الأحوال.
وللحديث بقية..