الحركة الدبلوماسية في العصور الإسلامية ودور العلماء في منطقة القرن الإفريقي (7)
وقد تناولنا في الحلقة الماضية سفارة الشيخ عبد الله الزيلعي إلى الديار المصرية واتصاله بقيادة البلاد طالباً بأن يتدخل سلطان مصر فيما يعاني المجتمع المسلم في بلاد الحبشة من الاضطهاد والتنكيل على أيدي الأحباش النصارى، وكانت هذه السفارة إحدى البعثات من منطقة القرن الإفريقي التي وصلت إلى مصر.
وإذا كانت سفارة الشيخ عبد الله الزيلعي وغيرها من أبناء منطقة القرن الإفريقي وصلت إلى أرض الكنانة فإنّ هناك بعثات وسفارات أخرى من أنحاء مختلفة وصلت إلى مصر، مما يدل على أهميتها ودورها الريادي في العلاقات الدولية في تلك الفترة.
وعلى الرغم من أننا لسنا بصدد الحديث عن الدبلوماسية المصرية في تلك العصور وعلاقاتها الدولية – وهو حديث شيق بحد ذاته – إلا أنّه ينبغي أن نشير إلى إحدى هذه السفارات التي بعثها أحد سلاطين اليمن، وهو السلطان المجاهد جمال الدين إلى مصر في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاون، والجدير بالذكر أن نشير إلى أنّ هذه البعثة كان يترأسها أحد الفقهاء من منطقة زيلع الساحلية، وهو الشيخ القاضي محمد بن مؤمن، ولا شك أنّ سفارته هذه تلقي الضوء على أنّ الأدوار السياسية أو الدبلوماسية التي لعب بها علماء الإسلام لم يقتصر في منطقة القرن الإفريقي فحسب، وإنما أيضاً في خارج المنطقة بعد وصولهم إلى أطراف أخرى في الخارج، وكان بعض هؤلاء العلماء محبوباً لدى الأمراء والسلاطين ومقرباً في بلاطهم ومجالسهم ، لذا ، فلا يستغرب أن يسند لبعض منهم مناصب عالية ، إدارية كانت أو سياسية ، كالقاضي محمد بن مؤمن الذي أصبح وزيراً للسلطان المجاهد جمال الدين ، سلطان اليمن وقائدها، علماً أنّ الشيخ محمد بن مؤمن كان أصله من منطقة القرن الإفريقي كما ذكر ذلك ابن مخرمة ” كان أصله من بلد السودان من ناحية زيلع”. فيما بعد وعند ما تعمقت العلاقة بين السلطان المجاهد جمال الدين وبين الشيخ محمد بن مؤمن فقد وصل الأمر إلى درجة مثّل السلطان وصار سفيراً له لدى الديار المصرية أيام السلطان الناصر محمد بن قلاون سنة 725هـ ، في أحلك الظروف حيث طلب سلطان اليمن من السلطان الناصر بن قلاون النصرة والتأييد حينما نشب نزاع مرير بين المجاهد وابن عمه ، الطاهر عبد الله بن أيّوب ، فقد نجح السفير القاضي في هذه المهمة وأداها بكل حنكة وقدرة ، بل واستطاع السفير أن يقنع سلطان مصر الناصر محمد بن قلاون بإرسال قوة عسكرية تناصر وتساند المجاهد على ابن عمه الذي خرج عليه ، لتكون مدداً له ، وقد وصل القاضي إلى أرض اليمن مع العساكر المصرية في شهر رجب سنة 725هـ ، كما رجح ذلك إبو مخرمة.
ومما يؤكد علاقة القاضي محمد بن مؤمن مع السلطان اليمني أنه ترأس مرة أخرى سفارة من قبل السلطان إلى مصر حاملاً معه الهدايا يريد أن يقدمه إلى سلطان مصر، وذلك ليقدم الشيخ شكره للسلطان مقابل ما قام به من العون والمساعدة العسكرية ، وكان ذلك في ذي القعدة في نفس السنة، وكان مسير هذه البعثة أو السفارة في البحر من ساحل زبيد ، غير أنه عاد إلى اليمن في ذي القعدة من سنة 726هـ ومعه ثلاثون مملوكاً هدية .
والفقيه محمد بن مؤمن كان يجد عند المجاهد جمال الدين قبولاً واحتراماً كبيراً ، ويدل على ذلك أنه أسند إليه مرة أخرى ولاية القضاء الأكبر، كما أسند إليه إحدى وزارات السلطنة مع إمداده بعطاء وإقطاع جيداً ، غير أن علاقة الفقيه مع السلطان المجاهد تدهورت وساءت حين حدث خلاف بين الجانبين بسبب ما قيل للسلطان من جانب القاضي حتى قتل في التَعْكَر سنة خمس أو ست أو سبع وثلاثين وسبعمائة، وهكذا أمر السياسية التي فرقت بين عائلة واحدة – أي بين السلطان وابن عمه – فما بال غير ذلك. ومهما كان الأمر فإن محمد بن مؤمن كان فقيهاً ظريفاً حسن الخط كبير النفس عالي الهمّة… وفي الغالب كانت سيرته محمودة ولاسيما في أمر الفقهاء والوقف، وكان صادق القول لم يخلف قولاً ولم ينطق بسَفَهٍ. وهذه الصفات الحسنة والأخلاق الحميدة لعلها جذبت السلطان المجاهد الملقب بجمال الدين حتى أجعله من أقرب الناس إليه يثق بهم ويوكل إليهم أكبر مهام دولته ، ومن جانب آخر فالفقيه محمد بن مؤمن كان يبادله نفس هذا الإحساس من الثقة والمحبة والإخلاص؛ حيث ترقت همته إلى الخدمة السلطانية حتى صار من أكابر رؤسائها. ( أبو مخرمة : تاريخ ثغر عدن، ص 258 – 260؛ وانظر محمد حسين معلم علي: الثقافة العربية، ص 154).
وعودة إلى سفارة الشيخ عبد الله الزيلعي إلى مصر وما تمخض عنها من الأخبار والنتائج ، لا شك أنّه يبرهن مستوى الوعي السياسي الذي كان يتمتع به المسلمون في الحبشة، وأنهم كانوا يسايرون ما كان يجري في محيطهم السياسي؛ لأنّ مصر رغم الغليان السياسي كانت ذات شوكة قوية وشأن عظيم، بل وتتمتع بالحنكة السياسية، ولها علاقة قوية مع القوى الدولية في تلك الفترة، فلذلك كان يصل إليها طلب استغاثات المسلمين ليست من مسلمي الحبشة واليمن فحسب، وإنما في أكثر من منطقة، وأنّ ذلك لم يأت بالاعتباط، وقد حدث أن اتصل بها المسلمون في الهند وفي بعض أماكن بالجزيرة العربية طالبين بالنجدة ، ويكفي أن نضرب مثلاً وخاصة في العصور المتأخرة عند ما قامت الدول الأوربية بطوق ملاحة البحر الأحمر والمحيط الهندي، بل وارتكبوا مجازر فظيعة، استغاث المسلمون في سلطنة كجرات الإسلامية والولايات الإسلامية الأخرى في الهند، وكذا حكام شبه الجزيرة العربية إلى سلطان المماليك في مصر المسمى سلطان الغوري لصد خطر الحلف المسيحي الأوربي والحبشي الذي يهدد المنطقة ليست اقتصادية ودينية فحسب، وإنما أيضاً سياسية واجتماعية، وكانت الحاجة تتطلب أن يوجد تعاوناً إسلامياً موحداً تجاه الأوضاع الصعبة التي واجهت الأمة في تلك الفترة العصيبة، غير أنّه عند ما توالت هذه الاستغاثات التجأ الغوري إلى الوسائل الدبلوماسية في سبيل تحجيم المشكلة وتقليلها، وأرسل سفارة دبلوماسية برئاسة الأسقف موردي سان برنار دينو Mauro di San Bernardion رئيس رهبان الفرنسكان بدير صهيون، ومعه راهبان إلى ملوك وأمراء أوربا وبابا في روما، لإنذارهم بأن يكف البرتغاليون عن أعمالهم العدوانية في مياه المحيط الهندي وإلا فإنه سيضطر إلى قتل كافة الفرنج في بلاده إضافة إلى إغلاق كنيسة القيامة.
وهذه التهديدات أزعجت بابا روما يزليوس الثاني، وقد حاول التدخل في ذلك بحيث أرسل سفيراً من قبله إلى ملك البرتغال ليشرح لهم الأسقف مضمون بعثته، غير أن تلك التهديدات التي أطلقها سلطان الغوري لم تلق بأية أهمية يذكر عند ملك البرتغال وطلب من البابا الهدوء وأن لا يهتم بتلك بتهديدات الغوري؛ لأنه لا ينفذ لأسباب عسكرية واقتصادية. (غسان الرمال: صراع المسلمين مع البرتغاليين في البحر الأحمر خلال القرن العاشر الهجير، السادس عشر الميلادي، ص 125 – 126).
وقد توصل المسلمون في الحبشة إلى قناعة بأن مصر تستطيع أن تفعل شيئاً تجاه الصراع في المنطقة من خلال علاقتها بالمملكة الحبشية؛ لأنّ العلاقة بين الطرفين قديمة ويستلهم إلى المذهب اليعقوبي الأرثوذكسي بحيث يرجع جذوره إلى تاريخ اعتناق الأحباش للنصرانية على المذهب المذكور ( الأرثوذوكسي) وهو عقيدة النصارى في مصر، ورئيس هذه الطائفة هو البطريرك ومقره في الإسكندرية ، ولذلك ارتبطت الكنيسة الحبشية بالكنيسة المصرية منذ القرن الرابع للميلاد وحتى منتصف القرن العشرين وبالتحديد حتى عام 1366هـ/ 1946م، حيث سمع البطريرك للأحباش باختيار مطران حبشي من جنسهم ، غير أن هذه العلاقة لم تكن هي العلاقة الوحيدة بين البلدين بل أن هناك الدير الحبشي الموجود في القدس والذي كان مخصصاً للحجاج الأحباش الذين كانوا يحجون إلى القدس وبأعداد كبيرة. ( نوال حمزة الصرفي: الجهاد الإسلامي في شرق أفريقية في القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي، ماجستير في التاريخ، أم القرى بمكة. ص 76).
حسب مجريات الأحداث يبدوا أنّ الكنيسة الحبشية قد استفادت في تثبيت أقدامها وإصلاح الأمور عند ما وصل إليها بعض الأقباط المصريين لأسباب مختلفة، سواء ممن وصل إلى الحبشة عن طريق تعاون وتبادل الخبرات، أو ممن وصل إليها هروباً من الطغيان السياسي في مصر في بعض الفترات مثل قدوم المهاجرين الأقباط الذين هاجروا من مصر فراراً من اضطهاد الحاكم بأمر الله الفاطمي( 966 – 1020م) والذين يعود إليهم الفضل في إحياء الحركة الأدبية والدينية في البلاد.
وينبغي أن نوضح أن الأقباط المصريين الذين وصلوا إلى الحبشة ينقسمون إلى قسمين، قسم فرّ من طغيان حاكم مصر الطاغي المسمى بحاكم بأمر الله الذي ارتكب أعمالاً تتنافي مع ما عرف عن الإسلام على مر العصور التاريخية من سماحة وعدل مع النصارى واليهود على السواء، وقسم آخر من الأقباط وصلوا إلى مملكة الأكسوم المسيحية عن طريق تعاون بين مصر والحبشة تارة وعن طريق علاقات كنسية سرية بين الطرفين المصري والحبشي. وفيما يتعلق بالقسم الأول ممن وصل إلى أرض الحبشة من الأقباط فراراً من طغيان حاكم بأمر الله المصري فقد بلغ في فترة حكمه إلى أقصى ما يمكن من الاضطهاد للمسلمين وغير المسلمين عند ما ارتكب أعمالاً بشعة ضد رعاياه، بل يقال كانت مصر ومعها باقي أنحاء الدولة الإسلامية تمر بمحنة عنيفة خلال حكم حاكم بأمر الله الفاطمي ، وقد أشار المؤرخون إلى تسلطه وجبروته وأنّه وصل كبرياؤه إلى حد قتل وزرائه وكبار رجال دولته، وكان بينهم بعض الأقباط، وأكثر من ذلك أنه ادعى بالألوهية، ومن البديهي أن يفرّ المتضررون بسفاهات الحاكم بأمر الله سواء كانوا مسلمين وغير مسلمين إلى مكان آمن، علماً أنّ أغلب الأقطار العالم الإسلامي في تلك الفترة كان تصل يده – كما سبق ذكره من قبل _ ومن هنا فقد وجد الأقباط خلاصهم في الهجرة إلى المملكة الحبشية المسيحية. بيد أنّه عند ما انتهى حكم الحاكم بأمر الله سرعان ما زال الظلم والاضطهاد وعادت الأمور إلى ما كان عليه. ( فتحي غيث: الإسلام و الحبشة عبر التاريخ، شركة الطباعة الفنية المتحدة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ص 64 – 65).
وللحديث بقية…