الحركة الدبلوماسية في العصور الإسلامية ودور العلماء في منطقة القرن الإفريقي (8)

لم تكن علاقة مصر السياسة تجاه منطقة القرن الإفريقي على وتيرة واحدة، وكانت بعض الأحيان علاقتها ودية رغم أن الصراع وكفاح المسلمين ونضالهم ضد الأحباش مستمر، ، كما حدث ذلك أكثر من مرة، وذلك لمراعاة مصالحها الخاصة تارة، وعدم وضوح تعاملها مع الأحباش الماكرين بحيث كانت علاقتهم بحسن النية في حين كان ملوك الحبشة يتعاملون بالمكر والخديعة، عندما كان القادة فيٍ مصر يتلقون هدايا في بعض الفترات من قبل ملوك الأحباش كما حدث ذلك عهد ملك الحبشي داود الأول الذي أرسل الهدايا إلى السلطان برقوق بن أنص العثماني في عام 1287م.
ولما جاء ملك يسحاق الحبشي الملقب بعبد الصليب ( 1414م- 1429م) فتح خلال حكمه صفحة جديدة من صفحات الكفاح بين المسلمين والأحباش فاستعد يسحاق لتدريب جيشه واستعان ببعض المماليك الجراكسة ممن كان يشغل وظيفة الزردكاش بمصر وقدم على يسحاق وعمل له ظردخانات عظيمة تشتمل على آلات السلاح من السيوف والرماح والظرديات وغيرها وكانوا من قديم إنما سلاحهم الحراب يرمون بها ، كما يروي ذلك المؤرخون.
وهذه الدبلوماسية الماكرة والأسلوب الهادي كان يتعامل نصارى الحبشة مع مصر لتهدئة الموقف حتى يطوروا سلاحهم ويقووا جيشهم، بينما أهل مصر قادة وشعب – سوءا مسلمين أو الأقباط – لم يعوا ما يصبوا إليه الأحباش في عملية تطوير سلاحهم. ومن باب ضرب الأمثلة وكشف نماذج ممن كان يساعد الأحباش في النواحي العسكرية وأدوات الحرب يكفي أن نشير إلى السيد الطنبغا أحد مماليك في مصر وهو ممن نفي من البلاد، وعلم هذا جيش النجاشي يستحاق كيفية استعمال النار الإغريقية وكيفية الرمي بالنشاب واللعب بالرمح والضرب بالسيف، وبالتالي عرفت الحبشة وسائل الحرب الحديثة وقتئذ وذلك على حين كان بمملكة الحبشة قبطي مصري يعرف باسم فخر الدولة، جاء إلى الحبشة ورتب له المملكة – وجبي الأموال فصار ملكاً له سلطان وديوان بعد ما كانت مملكته ومملكة آبائه همجاً لا ديوان لها ولا ترتيب، ولا قانون، فانضبطت عنده الأمور وتميز زيه عن رعيته بالملابس الفاخرة بعد ما كان داود بن سيف أرعد يخرج عرياناً وقد عصب رأسه بعصابة خضراء، فصار يسحاق يمر في موكب جليل بشارة الملك. .( إبراهيم علي طرخان: المرجع السابق، ص 59).
وأكثر من ذلك أن عدداً من المماليك الذين هربوا من مصر أثناء التنافس السياسي بينهم والذي بلغ أشده في أواخر عهد المماليك ، هاجروا إلى الحبشة في عهد الملك إسحق ( 1414 – 1439م) وقاموا بتنظيم الجيش الحبشي ودربوا الأحباش على استعمال النيران الإغريقية، وأنشؤوا الورش التي تصنع لهم السيوف والدروع وآلات الحروب الأخرى كما قام أحد المهاجرين الأقباط بتنظيم مالية الدولة ووضع نظام الضرائب. (فتحي غيث: الإسلام و الحبشة عبر التاريخ،) مرجع سابق ص 130)
وفيما يتعلق بأقباط مصر رغم علمهم بأن ملوك الحبشة قد هددوا أكثر من مرة أمن مصر ونيلها إلا أنّهم كانوا أيضاً قد أخذوا دوراً كبيراً في تقوية شوكة الحبشة في النواحي العسكرية، وهذا ليس معناه بأنّ أثر الأقباط على الحياة في بلاد الحبشة اقتصر فحسب في النواحي العسكرية فقط، وإنما كان هناك أيضاً أثر في النواحي الدينية والاجتماعية بحيث قام أقباط مصر في لملمة المسيحيين في بلاد الحبشة وتوحيد صفوفهم ومساعدتهم في النواحي الدينية، ومن خلالهم تحقق معاونة الإمبراطور والبطران على توحيد كلمة الدين المسيحي بين القبائل المتنافرة في الحبشة التي كانت في أوثق الروابط مع الكنيسة. ( رجب عبد الحليم: العلاقات السياسية بين مسلمي زيلع ونصارى الحبشة، ص 40؛ فتحي غيث، مرجع سابق، ص 66، 128)
والمعلوم أن عدم استجابة سلاطين مصر في بعض الأوقات لرجاء ملوك الحبشة في سبيل تعيين مطران جديد أو إعادة بناء الكنائس مثلاً، كان يؤدي إلى انتقام الأحباش من مصر عن طريق مسلمي الطراز؛ حيث يوقعون بهم اضطهادات شديدة، كما ذكرنا من قبل. ومن الغرابة أنّ الدولة الحبشية نفسها لم تكن تلبي نداءات المصريين ومساعيهم في حلحلة النزاع بينهم وبين المسلمين، بل لم تحترم الحبشة بالوفد المملوكي المصري الذي كان يزور في أراضيها لتدخل في أمر المسلمين في سبيل خلق جو هادئ وتحسين العلاقة بين الظرفين ، وذلك عند استأنفت الحبشة الحرب على المسلمين، بل واصلت الحرب في ظل وجود الوفد بحيث كان حاضراً تلك الأحداث مبعوث السلطان المملوكي جقمق العلائي الظاهري المدعو يحي بن أحمد شاد بك ، فأجبره زرع يعقوب على أن يسير إلى موقع المعركة ليرى السلطان شهاب الدين مقتولاً وذلك نكاية بالمسلمين، فلما بلغ السلطان المملوكي ما حدث غضب غضباً شديداً فأحضر البطريرك وأمر بضربه وهدده بالقتل ثم أمره بإرسال كتاب بخطه مع رسول من قبله إلى الملك الحبشي ليبلغه تهديد السلطان حتى يرفع أذاه عن المسلمين هناك.
كما جهز السلطان المملوكي موفداً من قبله يدعى الأمير مثقال الحبشي إلى محمد بن شهاب الدين بدلاي الذي استقر بعد وفاة أبيه في حكم مملكة عدل ، وأبلغه الرسول رسالة السلطان قائلاً له أنا نكرم من عندنا من النصارى رعاية لكم خوفاً على ملتكم لقلة عدد المسلمين وضعفهم فأجاب السلطان محمد بما معناه ألا تتكلفوا ذلك فحزب الله هو المنصور وافعلوا ما أمرتم به من عز الدين وذل الكفر ، ثم ذكر له ما فعله المجاهدون الأول من أسرة ولشمع مع مملكة الحبشة في فترات القوة والمنعة، علماً أنه عندما انهزم المسلمون على أيدي الأحباش النصارى وقتل سلطان المسلمين سلطان شهاب الدين أمر ثم بعد ذلك أمر ملك الحبشة بتقطيع جثة شهاب الدين أحمد بدلاي إلى قطع وزعت على أنحاء الحبشة لتعلق ابتهاجاً بانتصاره، ثم أمر الملك الحبشي بتوزيع الغنائم التي غنمها من بلاد المسلمين على الكنائس، كما قطعوا رأس خير الدين بعد قتله وحمله إلى زرع يعقوب. ( نوال الصرفي: نوال حمزة الصرفي: الجهاد الإسلامي في شرق أفريقية في القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي، مرجع سابق، ص 72 – 73).
وهكذا كان تصرفات الأحباش الدنيئة مع مصر تجاه الأوضاع المسلمين في منطقة القرن الإفريقي، وفي الوقت نفسه كان الأحباش يتضايقون عند ما يصلهم خبر إساءة السلطات المصرية بالأقباط، بل ولم يتوانوا التوصل إلى وقف ذلك، بحيث كان يصل الأمر اتصال ملك عمدب سهيون الحبشي المباشر بنظيره المصري السلطان الناصر محمد بن قلاون عند ما تسلم احتجاجاً شديد اللهجة من عمدب سهيون في عام 1325م ينعى على السلطان الناصر اضطهاده للأقباط في مصر ويهدد باتخاذ إجراءات مماثلة ضد العرب المسلمين في الحبشة وتحويل مجرى النيل إلى الصحراء لتجويع مصر، غير أن الناصر لم يعبأ بهذا الاحتجاج وطرد السفارة الحبشية. واستمر التصرفات الحبشية لعدم مبالاة علاقتها الدبلوماسية مع مصر حتى وفاة ملك عمدا صيون الحبشي لم يغيروا سلوكهم وتجاهلهم بحسن التعامل مع مصر، وخاصة عند ما جاء بعد عمدا صيون ابنه سيف أرعد الملقب بسفينة المسيح أو دعاء المسيح ( 1343ه – 1344ه/ 1372م – 1373م) حدث أن قبض على عدد من التجار المصريين والمسلمين بالحبشة وأعدم بعضهم وأرغم البعض على اعتناق المسيحية وأرسل فرقة من رجاله لاعتراض طريق القوافل بين القاهرة والحبشة، فأضر بالتجارة بين مصر والحبشة، براً وبحراً ، وكان هذا رد فعل لما قام به الأمير شيخو خلال سلطنة الناصر حسن (المتوفى عام 1361م) نحنو بطريق الإسكندرية مرقص إذ سجنه عام 1352م بسبب امتناع البطريق عن دفع الضرائب التي طلبها الأمير، تدخل السلطان حسن بنفسه وأطلق سراح البطريق وطلب إليه التوسط لدى ملك الحبشة لإعادة طرق التجارة كما كانت ، فأرسل البطريق بعثة من الأساقفة إلى سيف أرعد الذي استبقى الأساقفة عنده. (إبراهيم عليى طرخان: المرجع السابق، ص 52، 56).
الجدير بالذكر أنّ الإمبراطورية الحبشية كانت تعتبر نفسها وصاية لمسيحي مصر وأنّها مسؤولة عن حماية أي محاولة تنصب في إساءتهم، وفي سبيل ذلك كانوا يبدلون جهوداً كبيرةً لعدم مساسهم بأي أذى أو التخريب بمقدساتهم من قبل المسلمين، ومن هنا إذا ظهر نظام قوي في مصر كان الأحباش يبادرون تهدئة الموقف وتقوية العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين، وفي هذا المنحى شرعت الدبلوماسية الحبشية أن عمل أحد ملوكها وهو زرء يعقوب على تهدئة الموقف من خلال موادعته قادة مصر الذين كانوا لا يرضون إساءة المسلمين في منطقة القرن الإفريقي، وخاصة فترة سلطان جقمق العلائي الظاهري( 842 – 857هـ/ 1438 – 1453م) حتى لا يضطهد الأقباط في مصر وينتقم، فأرسل له كتاباً طويلاً باللغة العربية يتناول فيه أوضاع الحبشة وخاصة أحوال المسلمين، وكان يهدف إلى تهدئة الموقف وتحسين العلاقة بين الجانبين. وكان في معية الوفد أكثر من مائتي جواري ورقيق، وطشت وإبريق، وسيف مسقط بذهب، وحياصة وبناد ومهماز،كل ذلك من ذهب، وقد أورد المؤرخون هذه رسالة ملك زرء يعقوب الحبشي رغم طولها.
- وللحديث بقية.