الحركة الدبلوماسية في العصور الإسلامية ودور العلماء في منطقة القرن الإفريقي (9)
الدبلوماسية الحبشية:
نهاية الحلقة الماضية أشرنا إلى أن الدبلوماسية الحبشية التي وصلت إلى أن قام أحد قادتها وهو ملك زرء يعقوب على مغازلة ومخادعة قادة مصر الذين كانوا لا يرضون إساءة المسلمين في منطقة القرن الإفريقي، وخاصة في فترة سلطان جقمق العلائي الظاهري( 842 – 857هـ/ 1438 – 1453م) وذلك حتى لا يُضطهد الأقباط في مصر ويُنتقم منهم كرد فعل للممارسات السيئة ضد المسلمين في بلاد الحبشة، ومن هنا أرسل الملك الحبشي للسلطان كتاباً طويلاً باللغة العربية يتناول فيه أوضاع الحبشة وخاصة أحوال المسلمين، وكان يهدف إلى تهدئة الوضع وتحسين العلاقة بين الجانبين، بحيث كانوا يدركون أنّ تصرفاتهم الجائرة ضد المسلمين في المنطقة قد يغضب السلطات المصرية، وحتى لا تتعثر العلاقة معهم بعثوا وفداً دبلوماسياً رفيع المستوى، في يوم خميس ثامن عشر من شهر رجب عام 847هـ، وكان في معية الوفد أكثر من مائتي جارية ورقيق، وطشت وإبريق، وسيف مسقط بذهب، وحياصة وبناد ومهماز، كل ذلك من ذهب.
وقد أورد المؤرخون رسالة ملك زرء يعقوب الحبشي رغم طولها. وقد أشرنا إلى أنّ هذا الوفد كان يتكون من جماعة ممن يثق بهم الملك، ومن ذكائه جعل ضمن قائمة الوفد بعض المسلمين ممن كان يثق بهم أمثال عبد الرحمن التاجر وبعض شجعان القوم. وهذه الرسالة طويلة جداً، لذلك نضطر أن نركز في هذه الحلقة والاقتباس على بعض نصوص هذه الرسالة المباشرة للدلالة على مدى ما وصلت إليه الدبلوماسية الحبشية وإدراكها خطورة تصرفاتهم العدوانية تجاه المسلمين في المنطقة، وأنّ هدفها – أي الرسالة – لم يكن إلا لتمويه الأوضاع في المنطقة.
وقد استهل الملك زرء يعقوب رسالته على نحو التالي: ” المحب الصادق زرء يعقوب المكنى قسطنطين من نسل سيف أرعد من بني سليمان بن داود عليهما السلام، ملك سلاطين الحبشة وصاحب النواب بالمملكة النجاشية”، ثم سرد الممالك والنواب، وأن سلاطينهم أكثر من ثلاثين سلطاناً”… وغير ذلك من بلاده في الجهات الشرقية والعربية، قريبها وبعيدها إلى البحر المحيط. خلد الله ملكه، وثبت قواعد دولته، ونصر جيوشه وعساكرهم”.
ثم بعد ذلك بين بأن الرسالة موجهة إلى حاكم مصر الملك الظاهر جقمق ودولته الموقرة، وقال: ” إلى الإمام الشريف العالي الأوحدي السلطاني الملك الظاهر جقمق سلطان المسلمين والإسلام بمصر والشام. سيدي الأنام، الخاص منهم والعام، أعز الله أنصاره، وأدام عزه واقتداره، وجعل العدل والفضل شعاره: ومحي بعدله وإحكامه أسباب الظلم وآثاره”.
ويظهر في الرسالة لمسات إسلامية من خلال عباراتها وأساليبها المكتوبة، مما يدل على أنّ بعض مستشاري الملك لم يكونوا فقط المسلمين، بل كانوا ممن لهم إلمام في الدين الإسلامي – أي العلماء – ويدل على ذلك صيغة الرسالة وتوجها العام مثل: ” أما بعد، نحمد الله سبحانه وتعالى، مقلد أرض ملكه لمن يشاء من عبادة، وخالص العهد لأوليائه، القائمين بأمره ومراده، ونحمده على ما أولانا من جزيل نعمائه، ونشكره شكراً نستديم به مزيد آلائه، ونسأله الإعانة على القيام بما يرضيه لما خولنا من الممالك الوسعية والمنزلة العالية الرفيعة، إنه على ما يشاء قدير، وإجابته جدير. وهو حسبي ونعم الوكيل. سلام عليكم، سلاماً جزيلاً وافراً، على ما يليق بعظمة سلطانكم، وعلى أمراء دولتكم الأعزاء، وأخصائكم ومقدمي جيوشكم، وعلى الأولياء والصالحين. ومما نعلم به محلكم الشريف، أنه قد اتصل إلينا جميل أخباركم، وأنكم حفظكم الله تعالى، أمرتم بإبطال المظالم عن سائر المعالم، ودعتم والقوم الظالمين، ورفعتم أسباب المضرات عن الرعايا بكل البلاد والأقاليم، وعففتم عن من له حرمة، وأبعدتم آثار المفسدين، ورحمتم ذوي الفاقة من الفقراء والمساكين، الذين بهم وجبت لكم دعوات صالحة شريفة، وبها فتح الله لكم الحصون المنيفة وانقادت لطاعتكم الخلائق الغير المطيعة”.
ثم قال بعد ذلك عرج إلى مدح سلطان مصر ودولته بحيث ذكر: ” إنه وصل إلينا جميل أخباركم، وأنكم، حفظكم الله تعالى، أمرتم بإبطال المظالم من سائر المعالم وردعتم القوم الظالمين ورفعتم أسباب المضرات عن الرعايا بلك بكل البلاد والأقاليم..
واستمر مدحه قائلاً: “… ولما بلغ إلينا ما أنتم عليه من الخير استنشقنا منه عرفاً طيباً، وطيباً يفوق كل طيب، وقصدنا تجديد ما سبق من العهود من الملوك المتقدمين من بلادنا وبلادكم، إتباعا لآثارهم المشكورة. وقصدنا إعلامكم ذلك بشارة لكم، ليكون ذلك العهد مستمراً بلا انحراف، والاتفاق بيننا وبينكم بلاد خلاف. وآخر ذلك ما كان في أيام الشهيد الظاهر برقوق ونجله الناصر، سقى الله عهدهما صوب الرحمة. وأيام والدنا وجدنا من المحبة والاتفاق، على ما ظهرت به الصحائف من أخبارهم الحميدة وسيرهم المرضية. وأنهم كانوا قائمين بالعدل خصوصاً بإخوتنا النصارى متوصين، ويرجعوا عنهم القوم الرائدين وهْن كنائسهم والتنقيل على من كان فيها من القساوسة والراهبين، وذلك بما يحققون من مناصحتهم في خدمتهم، ومن كان منهم يموت بدفن من غير تعرض أحد. ومن كان لا وارث له وخلف شيئاً من الموجود يتولى أمره أبونا البطريرك ليستعين به على كلف الواردين والمنقطعين، وقد بلغنا الآن أن هذه القواعد قد تغيرت من قبل قوم كانوا عن طريق العدل حائدين، وفي طريق الظلم خائضين . والآن إذا مات أحد من إخواننا النصارى لا يدفن إلا بعد مشقة كبيرة لأهله وأقاربه، ويؤخذ منهم ما لم تجر به عادة في أيام الملوك السالفين. والله تعالى لم يعذب أحداً من خلقه بقطع الرزق. وإذا وجد منهم أحد غير الطريق وهو يباشر لا يليق به، يؤدب بمفرده ولا يشاركه غيره، لأنّ الله تعالى لا يطلب الولد عن أبيه، ولا الوالد عن والده، وإنما كل أحد بعمله. ثم بلغنا أيضاً، أن ثم من يتعرض إليهم في كنائسهم في أوقات صلواتهم، وفي أيام أعيادهم بقطع مصانعتهم، وأخذ ما لا يستحقون أخذه. وأنهم في غاية الضيق. وفي ذلك وأنتم – حفظكم الله – عارفون ما يلزم الراعي من النظر في حال الرعية، وأن الله يطالبه بذلك،، وأبونا البطريرك وإخواننا النصارى الذين هم الآن تحت عز سلطانكم ومملكتكم الشريفة نفر قليل جداً ضعيف الحال مساكين في كل الجهات ولا يمكن أن يكونوا قدر قيراط من المسلمين القاطنين بإقليم واحد من بلادنا. “.
والحقيقة أنّه لا يخفى على أي مطَّلع للرسالة بأنّ هدفها الرئيسي وقصدها الدبلوماسي ليس إلا لتمويه الرأي العام وعلى رأسهم الدولة المصرية وذلك بغية إخفاء الأعمال الإجرامية التي تُمارس ضد المسلمين في منطقة القرن الإفريقي ليل النهار، وفي ذلك قال: ” وأنتم – حفظكم الله – ليس يخفي عليكم ما في بلادنا الواسعة من المسلمين تحت حكمنا، ونحن لهم ولملوكهم مالكين ولم نزل نحسن إليهم في كل وقت وحين. ومن تقدم من آبائنا وأجدادنا لم يزالوا بهم متوصين، ولأنفسهم وأموالهم حافظين سامعين لأقوالهم، رادعين من يتعرض إليهم. ونحن على ما كان عليه آباؤنا، سالكون في طريقهم غير متعرضين لإقامة مساجدهم ولا إلى أيام أعيادهم وأيام مواسمهم، وملوكهم عندنا التيجان بالتيجان والذهب راكبون الخيول المسومة وعامتهم في أسبابهم، آمنون مطمئنون على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، راكبون بالبغال في أحسن الأحوال، ولا نأخذ منهم جزية ولا شيئاً، لا قليلاً ولا كثيراً، ولا يشوش عليهم أصلاً، ولو أخذنا منهم جزية، وكان كل واحد يزن درهماً، لكان يجتمع لنا من الأموال ما لا يحصى. وإن كنتم في شك من ذلك، فاسألوا التجار والمترددين إلى بلادنا ليخبروكم بذلك بالحق والصدق. ومن نقل إليكم غير ذلك فهو من الكاذبين، الذين يقصدون رمي الفتن التي هي أشد من القتل عند العارفين”
غير أنّه لم يلبث حتى أظهر الوجه الحقيقي للحبشة وإرادتها في المنطقة عند ما أردف الكلام السابق اللين الدبلوماسي بتهديد مصر وقطع نيلها، مما يدل على أن هذه الرسالة الطويلة تحمل في طياتها الوعد والوعيد أو ما يسمى الترغيب والترهيب، في هذا الإطار ذكر الملك: ” وليس يخفى عليكم ولا على سلطانكم بأن بحر النيل ينجر إليكم من بلادنا، ولنا الاستطاعة على أن نمنع الزيادة التي تُروى بها بلادكم عن المشي إليكم؛ لأن لنا بلاداً تفتح لها أماكن فوقاتية يتصرف فيها إلى أماكن أخرى قبل أن يجيء إليكم، ولا يمنعنا عن ذلك إلا تقوى الله تعالى والشفقة على عباد الله، وقد عرضنا على مسامعكم ما ينبغي إعلامه، فاعملوا أنتم بما يلزمكم وبما يُلقى الله في قلوبكم. ولم يبق لكم عذر تبدونه. وفي صدق مودتكم وفضلكم ما يغني عن تكرار السؤال، وما قصدنا بهذا إلا أن تكون بيننا وبينكم الصلح، كما بين الملوك السالفين. وليكن حبل المودة ممتداً بغير انصرام. وستعلمون صحة كلامنا، واسألوا الجبرتية الذين يقومون بالجامع الأزهر، كم لهم سلطان على المسلمين”. (إبراهيم علي طرخان: الإسلام والممالك الإسلامية في الحبشة، ص 63 – 64)
ومع هذا كله، ومن جملة مضمون رسالة الملك الحبشي تحاول تهدئة الوضع من خلال استدراج السلطان ودولته إلى حسن العلاقة بين الظرفين، واستنار ما كان من علاقة بين البلدين من قبل، وفي ذلك كتب: ” وكان والدي داود، أرسل رسلاً إلى السلطان الملك الظاهر برقوق، فقابلهم بالإكرام والاحترام، وودعهم سريعاً ليكونوا مستبشرين. وسبب ذلك صار بينهم إثبات العهود والمودة إلى حين وفاتهم. ولما أراد الله تعالى جلوسنا على تحت والدنا، أرسلنا رسولاً إلى الملك الأشرف رحمه الله ليتجدد العهد والمودة بيننا، فأكرم قصدنا وأحسن إليهم، وقابلهم بما كنا أردنا منه. والآن فقد أرسلنا لعظمه سلطانكم رسلاً. والمسئول بروز أمركم ما أرسلت من شيء يسير وعودهم سريعاً”.
وبعد هذا الكلام الجميل اختتم الملك رسالته بنهاية جميلة وتوديع مناسب : ” بعد السلام الوافي التام على المجلس الشريف السلطاني، وعلى محبيه وعلى أمرائه وقضاة الشرع، وعلى كل من حوى مملكته العالية، وهو حسبي وعليه توكلي، والحمد الله رب العالمين.”
كيف أجاب سلطان مصر عن الرسالة؟
ولم يكن الملك الحبشي زرء بعقوب صادقاً بكلامه من خلال الرسالة التي بعثها إلى سلطان مصر جقمق، وإنما سرعان ما قام عكس ما ذكر في رسالته الطويلة، بحيث استمر اضطهاده المسلمين بالحبشة – مثل ما كان الحال من قبل – ومن حسن الحظ أنّ السلطان جقمق كان على علم تام بكذب ما في هذا الكتاب من ادعاءات، وما عند الأحباش وملكهم من الزور والبهتان، فضلاً عما هناك من تهديدات واضحة، ومع ذلك فقد أجاب رسالة زرء يعقوب وهديته أيضاً بحيث بعث رسالة جواب مع هدية أرسلها على يد قاصد سلطاني هو يحيى بن أحمد شاد بك، غير أن زرء يعقوب لم يرتض هذا الجواب وعوق القاصد السلطاني بعض الوقت، حتى أجهز على سلطان عدل، شهاب الدين أحمد بدلاي، وأرسل مندوب جقمق ليرى السلطان المقتول حتى يكون ذلك أنكى للمسلمين. كانت إجابة جقمق على هذه الأحداث استدعاء البطريرك وضربه وتهديده بقتل جميع النصارى؛ لأنهم سبب ذلك، وأمره بإرسال كتاب بخطه ومن قبله إلى النجاشي ليرد القاصد السلطاني مكرماً، وعاد يحيى بن أحمد بعد مضي نحو أربع سنوات.
للحديث بقية..
( انظر الرسالة الكاملة في كتاب التبر المسبوك في ذيل السلوك، للسخاوي، محمد بن عبد الرحمن السخاوي، تحقيق نجوى مصطفى علي ولبيب إبراهيم مصطفى، مطبعة دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة، عام 1423هـ/ 2002م، 1/164).
(إبراهيم علي طرخان: الإسلام والممالك الإسلامية في الحبشة، ص 64 – 65).