الحركة الدبلوماسية في العصور الإسلامية ودور العلماء في منطقة القرن الإفريقي (١)
قبل أن نتناول الجهود الدبلوماسية التي قام بها العلماء والفقهاء في منطقة القرن الإفريقي أو في الأراضي التي كانت تعرف ببلاد الحبشة ينبغي أن نشير أولاً وقبل كل شيء إلى أنّ إرسال البعثات والرسل لم يكن بدعاً ، بل كان أمراً عادياً بين الأمم والدول منذ العصور القديمة كوسيلة للتفاهم والتخاطب بين الأطراف، سواء كان ذلك ما له علاقة بالقضايا الدينية أو السياسية أو غير ذلك، كما أنّ لكل بعثة أهدافها الخاصة تريد تحقيقه، مما يدل على أنّ ذلك لم يكن أمراً مستحدثاً في العصور الوسطى – أي العصر الإسلامي – فضلاً عن العصر الحديث، وإن كان هذا الأمر قد طرأ عليه تطور ملموس ودخلت في وسائل تحقيقه لمسات عالية وتقنيات باهرة من حيث الرؤية في عالم الدبلوماسي المعاصر.
وقد كانت الدبلوماسية معروفة عند الأمم السابقة كالرومان واليونان والصينيون والهنود والمصريون القدامى وغيرهم، بل وأنّ لفظة دبلوماسية نفسها هي كلمة يونانية الأصل مشتقة من لفظة ” دبلو ” diploo ومعناها الطويُ والثني. أما في الجزيرة العربية فكانت العرب تستخدم مصطلح السفارة على من يقوم مهمة ما يعرف اليوم دبلوماسي، كما كانوا يطلقون باسم السفير على من يمارسها، وتارة الرسول أو المبعوث.
وقد بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – أحد أصحابه وهو مصعب بن عمير القرشي إلى مدينة يثرب كأول سفير في الإسلام ليعلم المسلمين القرآن الكريم وتعاليم الإسلام، وفعلاً رافق مصعب بالوفود التي حجت واستقبلت النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم بايعت بعد إسلامهم النبي عند العقبة الأولى، واتفقوا معه على مجموعةٍ من البنود سمّي فيما بعد في التاريخ ببيعة العقبة الأولى.
ومن هنا انطلق سيدنا مصعب بن عمير من مهبط الوحي الأول باعتباره أول مبعوث من قبل نبي الله محمد – صلى الله عليه وسلم – إلى مدينة يثرب داعياً ومبلغاً بتعليماته، ورسالته إلى أهالي يثرب بمختلف طوائفهم الدينية والاجتماعية، ومن هنا لم يأت من فراغ عند ما تحولت يثرب من مدينة عادية إلى عاصمة للدولة الإسلامية الأولى بقيادة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
وذكر الإخباريون أنّ الرسول – صلى الله عليه وسلم – بعث سيدنا عثمان بن عفان – رضي الله عنه – سفيراً ومفوضاً من طرفه إلى قريش ليبلغهم أهداف رحلته الدينية التي جاء المسلمون من أجلها بقيادة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ومن أجل أداء شعيرة العمرة بعد الهجرة النبوية إلى المدينة، وأنهم لا يريدون الحرب، وذلك عند ما جاؤوا لزيارة بيت الله الحرام في شهر ذي القعدة من العام السادس للهجرة، وبعد تفاهم أرسلت قريش من طرفها سهيل بن عمر إلى المسلمين للاتفاق على صلح أُطلق عليه فيما بعد باسم صلح الحديبية، وأبرم الطرفان اتفاقاً تمخض عنه صلحاً جاء ضمن بنوده:
– دخول أي شخص إلى عهد قريش أو عهد النبي صلى ا لله عليه وسلم
– منع الحرب لمدة عشر شهور على التوالي.
– رجوع المسلمين ذلك العام على أن يدخلوا مكة المكرمة معتمرين في العام المقبل بشرط دخولهم دون سلاح ما عدا السيوف التي في أغمادهم، ودخولها بعد أن تخرج منها قريش، وألا تزيد مدة إقامة المسلمين في مكة المكرمة على ثلاثة أيام.
– حُرمة الاعتداء على أي قبيلة أو شخص مهما كانت الأسباب والدوافع.
وغير ذلك من البنود، غير أنّه لا يعنينا هنا النقاش حول هذا الصلح وما توصل إليه الطرفان من الاتفاق بقدر ما يهمنا ما جرى من الحوار والنقاش الحاد بين الجانبين عبر المبعوثين والمفاوضين من الطرفين.
ولم تتوقف بعوث النبيّ – عليه أفضل الصلاة والتسليم – ورسله إلى بعض الملوك والأباطرة، بحيث أرسل مبعوثيه إلى ملوك الدول القوية مثل: هرقل ملك الروم، وكسرى ملك الفرس، والنجاشي ملك الحبشة. والمقوقس ملك.مصر.
وبعث أيضاً رسلاً إلى بعض زعماء القبائل كملك أسقف نجران، وملك عمان والبحرين واليمن، وبالإضافة إلى مجموعة أخرى من زعماء القبائل المتفرقة في شبه الجزيرة وأطرافها.
ورغم أنّ الوظيفة الأولى للنبي – صلى الله عليه وسلم – كانت تبليغ رسالة الإسلام وشرح وحدانية الله، إلا أنّه لم تخل إرادة النبي بخلق علاقة حسنة بينه وبين تلك القوى، ومن هنا كان يحترم الرسل والمبعوثين إليه ولو كان هدفهم ما يخالف شرع الله، ولذلك تأكيداً لتحسين صورة الإسلام، وتجلى هذا الأمر عند ما وصل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وفد من مسيلمة الكذاب ليفاوضاه في إمكانية مشاركة مسليمة له في النبوة، فردهم النبي – صلى الله عليه وسلم – قائلاً : ” لو لا أن الرسل لا تُقتل لضربت أعناقكما “.
أما من ناحية المبعوثين من قبل الرسول – صلى الله عليه وسلم – فكان في معيتهم رسائل تحمل في طياتها دعوة الإسلام وجوهره، فمثلاً رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – التي بعثها إلى المقوقس جاء في مضمونها:
بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الإسلام إلى المقوقس عظيم القبط: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعوة الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾
وكان جواب المقوقس: ” لمحمد بن عبد الله، من المقوقس، سلام، أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت وما تدعو إليه. وقد علمت أن نبياً قد بقي، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسلك وبعثت إليك جاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة وأهديت إليك بغلة لتركبها “.
كما بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى ملك الروم رسالة مماثلة جاء في طياتها أيضاً: ” من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين… ” قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله…”.
وهكذا كانت الرسل والبعوث تترى عبر التاريخ الإسلامي لم تنقطع فترة من الفترات، غير أنّ تلك البعوث والسفراء كانت تختلف أهدافهم ومآربهم إلى دينية وسياسية واقتصادية وما إلى ذلك، كما أنّ كل مبعوث كان له أسلوبه المتميز وطريقته الخاصة ، ويرجع إلى الظروف التي كانت تحيط بالجهة المرسلة، وكذا إلى الأسباب والعوامل الدافعة.
ومنطقة القرن الإفريقي كانت جزءاً من المناطق التي توجهت إليه البعوث التي انطلقت من عاصمة الإسلام المدينة المنورة في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – وذلك عند ما كتب النبي رسالةً إلى ملك الحبشة آنذاك النجاشى الأصحم بن أبجر ضمن الكتب والرسائل التي أرسلها الرسول إلى آفاق من العالم، وقد أورد أهل السير والمغازي لهذه الرسالة التي جاءت نصها كما يلي: “بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه من روحه ونفخته، كما خلق آدم بيده ونفخه، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني، فإني رسول الله، وقد بعثت إليك ابن عمى جعفر ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاءوك فاقرهم، ودع التجبر فإني أدعوك وجنودك إلى الله -عز وجل-، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى.”
وللحديث بقية..