الصراع السياسي فى الصومال: الاستعمار والبعد التاريخي (4)
الفشل المبكر في تكوين دولة حديثة:
بعد نيل الاستقلال كان ينبغي التركيز على إقامة دولة صومالية حديثة وبالمعايير المتعارفة عليها دوليا، أساسها المواطنة واحترام القانون والتساوي في الحقوق والواجبات؛ فبدلا من ذلك تم التوجه إلى البحث عن الصومال الكبير واستعادة الأقاليم المفقودة.
وعوضا من ترتيب البيت الداخلي لجمهورية الصومال التي أعلنت استقلالها غرة يوليو عام 1960م بتوحيد شطريها الشمالي والجنوبي ، ركز الصوماليون على البحث عن الصومال الكبير واستعادة أقاليمه المفقودة والتي ضمتها بريطانيا إلى الدول المجاورة وذلك تحت تأثيري العاطفة والحماس غير المضبوطين ، وأثر ذلك سلبا في مسيرة مشروع الدولة الصومالية المنشودة . إضافة إلى نقل الثقافة الرعوية المبنية على العنف والقبلية إلى قلب الدولة، إذ اتسم مشروع الدولة و في بداية مشواره بالإقصائية، ولم يقدر أن يستوعب كل الصوماليين بأطيافهم المختلفة ” المجتمعات الرعوية والزراعية والساحلية ” كلها في قالب واحد عنوانه الوطن ، وقد تم تهميش قبائل كان لها الدور الأبرز في صياغة الثقافة الصومالية وحضارتها بعد أن استبعدت من الساحة بقصد أو دون قصد وكلاهما مذموم ، وبذلك قد استأثرت القبائل الرعوية مشروع الدولة برمته ، عندما اختزلته بـعبارة” ناقة مانديق ” لتشبّه الدولة ومفهومها بالناقة الحلوبة ، والتي يدر ضرعها لبنا للمستحلبين ، علما أن طيفا واسعا من الصوماليون لا يعتبرون النوق أو الإبل ثقافة لهم . مما زرع نوعا من الشرخ في النسيج الاجتماعي الصومالي و أثر سلبا على وجود الدولة كيانا ومفهوما.
كانت المسئولية الملقاة على عاتق القيادة الجديدة إثر الاستقلال تبني سياسة أو فلسفة تتمحور الانتقال من دولة بدائية أساسها القبيلة إلى دولة حديثة أساسها القانون ، ولكن القيادة اتجهت إلى تحقيق وحدة الصومال الكبير رضوخا للرغبات العارمة للشعب الصومالي أنداك ، و ذلك بلا شك خدم لمشروع البحث عن القومية الصومالية ومحاولة توحيدها تحت راية واحدة ودولة موحدة؛ ولكنه أضر بنفس القدر عن إيجاد دولة لها مقومات تؤهلها إقامة كيان دولة مستقلة تقدم الخدمات الأساسية لمواطنيها، وتتمتع بحسن علاقات مع جوارها والعالم.
وقد ينتقد البعض بأن الصومال لم يعرف أصلا في تاريخ مسيرته نحو مشروع الدولة دولة القانون وهى( الدولة التي تكون تحت سلطة القانون وليس فوقه) [1] كما يعرفها الكاتب الألماني : جيركة . إلا أن طبيعة المجتمع الصومالي الذي يعلو فيه شأن القبيلة والعشيرة ، وثم الفخذ أثرت بشكل فظيع مشروع إيجاد دولة صومالية تخدم للمواطن الصومالي بالدرجة الأولى بشكل متساوٍ في الحقوق والواجبات . تشهد الصومال حاليا وبعد مرور نصف قرن ونيف من الزمان من استقلاله عجزا تاما في إدارة البلاد والعباد ، بسبب فشل الدولة المتمثل في عدم تمتعها بشرعية قوية في أنحاء الدولة ، فاقدة لمكونات العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين؛ حيث يضرب الفساد والتمثيل السياسي الضعيف وإساءة استخدام القوة العسكرية مقومات المواطنة في مقتل [2] .
ففي هذه الجزئية نلقى الضوء على محور إشكالية تقاسم السلطة باعتبارها من أهم مسببات فشل مشروع الدولة ، كما نعرج قليلا على الانتهازية في النخب السياسية في العهد المدني:
أولا: إشكالية تقاسم السلطة:
ا. بين الشمال والجنوب:
بعيد اتحاد شطري الشمال والجنوب في عام 1960م، والتي مثلت آمالا واسعة بإمكانية استعادة باقي الصومال الكبير ، لم يتم مراعاة العديد من القضايا المصيرية والموروثة منذ العهد الاستعماري ، والتي بدورها قد أضحت إثر ذلك مصدرا رئيسيا لمشكلات عديدة بين الجانبين ، لاسيما أربعة قضايا محورية وهى: تقاسم السلطة وقضية اللغة الوطنية ، وتوحيد النظم الحكومية والإدارية واختيار العاصمة . فبالنسبة لتقاسم السلطة لم يتطرق إليها دستور عام 1960م، وإنما تركها للتوافق العام بين أقطاب النظام السياسي بين الشمال والجنوب في مسألة شغل المناصب العامة ، إضافة إلى عدم تسوية قضية اللغة الوطنية حيث بقيت اللغة الصومالية حتى ذلك الحين لغة غير مكتوبة، لا تستخدم في المعاملات الرسمية.
الجدير بالذكر في هذا الصدد أن الزعماء الصوماليين لم يهتموا بتوحيد النظم الحكومية والإدارية فيما بين الجنوب والشمال ، خصوصا تلك التي تتعلق بتوحيد النظام الضريبي والرسوم الجمركية وكذا النظم القانونية والتشريعية وتنسيق الهياكل الحكومية المحلية . أما بالنسبة لأمر العاصمة فقد أقلق الشماليون كثيرا من أن اختيار مقديشو كعاصمة اتحادية سوف يتسبب في إهمال هرجيسا عاصمة الشمال ، وربما يفقد بريقها ولمعانها لاحقا.
لقد اتسمت عملية الوحدة منذ الوهلة الأولى باختلالات بارزة في عملية تقاسم السلطة والموارد فيما بين الشمال والجنوب مما أدى إلى إثارة احتجاجات محددة من قبل الشماليين فيما يتعلق بنصيبهم النسبي في هذه العملية خاصة في مجالات عديدة : أهمها ضعف مستوى تمثيل الشماليين في مؤسسات النظام الصومالي؛ حيث حظي الجنوبيون عقب تشكيل الحكومة الأولى في عام 1960 م ، نصيب الأسد من المناصب السياسية بما في ذلك رئاسة الدولة ورئاسة مجلس الوزراء وحوالي ثلث المناصب الوزارية بالإضافة إلى أكبر منصبين قياديين في القوات المسلحة والشرطة . ويضاف إلى الاختلالات الحاصلة في تقاسم السلطة فيما بين الشمال والجنوب فقدان معظم السياسيين والكوادر المتعلمة التي انتقلت إلى الجنوب للعمل في المؤسسات الحكومية ، وللمشاركة في النظام السياسي الذي كان متمركزا إلى حد ما في العاصمة مقديشو ، مما أفضى إلى حرمان الشمال من نسبة كبيرة من نخبته المتعلمة والذي أثر بدوره سلبا على فرص التنمية البشرية في الشمال . ومن المجالات التي أثار الشماليون الاحتجاج فيه ضعف حصة الشمال في الإنفاق الحكومي العام في الصومال حيث لم يكن الشمال يحظى بنسبة متوازنة من الإنفاق العام ، وكانت سياسات التنمية الحكومية تتسبب في إعاقة اقتصاد المناطق الشمالية في البلاد [3]
كل هذه الشكاوى وغيرها أثارت احتجاجا مبكر من الطرف الشمالي، وانعكس ذلك في موقفهم برفض حزب الرابطة الوطنية الصومالية في الشمال لمشروع الدستور الصومالي عام 1961م . وعندما طرح هذا الدستور للاستفتاء في نفس العام ، فإن نتيجة الاستفتاء أظهرت رفض أغلبية المصوتين في الشمال لهذا الدستور [4] وكان ذلك إشارة مبكرة من الناخب الشمالي في امتعاضه عن مسيرة الوحدة، ولاسيما مسالة تقاسم السلطة والثروة بين الشمال والجنوب ، أضف إلى ذلك الانقلاب الذي قام به ضباط من الشمال فى20 ديسمبر عام 1962م والتي كانت محاولة منهم لفك الارتباط من الجنوب والذي بدأ بمشروع الوحدة والدولة بالإقصاء وممارسة التهميش على الأطراف [5].
ب . تغييب مكونات رئيسية في المجتمع عن هيكل الدولة:
وعلى الرغم من أن الجنوب قد تم التعامل معه ككتلة موحدة بعد توحد شطري الشمال والجنوب إلا أن القبائل التي أسندت إليها المناصب العليا كان لها نصيب الأسد في تعيين معظم المناصب الدستورية والتنفيذية ، وقد غابت مكونات مهمة في نسيج المجتمع الصومالي عن هياكل الدولة والحكومات التي تم تشكيلها إثر الاستقلال أو تم تغييبها عن عمد مما أدى إلى حرمان مناطق مهمة مثلت تنوعا اثنيا لو أتيحت لها ولكفاءاتها المشاركة في هياكل الدولة لساهم ذلك وبلا شك في بقاء الدولة وتماسكها .
وبعد كل ما جرى من حرب أهلية وتجاذبات بين المناطق أو القبائل من أجل الحصول على حقوق متساوية أساسها المواطنة إلا أن هناك من يفكر حتى اللحظة بعقلية الاستئثار بالسلطة والمال والتمتع بامتيازات تكون لوحده دون غيره من المواطنين ، ليبقى السؤال إلى متى ستستمر انتهاج هذه السياسة الإقصائية ضد أجزاء أ وشرائح واسعة للمجتمع من قبل الحكومة لأن ممارسة الحرمان على جزء من المجتمع أو قبائل أو شرائح بعينها، لاشك أنه سيؤدى بوما ما إلى ثورة الجياع وتلك هي السنن الكونية التي كفلها القدر.
ج. انتهازية النخب السياسية في العهد المدني:
دأبت النخب السياسية في العهد المدني الانتهازية والتركيز على المصالح الشخصية ، ولما كانت المصلحة العامة تقتضى تقديم تضحيات لبناء مشروع الدولة والتحرر من التبعية الغربية ، ظل التركيز يصب في تحقيق مكاسب شخصية عبر استثمار شركات وهمية عادة ما تتعاون مع الأجانب وبالأخص الإيطاليين والاستفادة من المنح والمساعدات الخارجية المقدمة للصومال . تهربت الكثير من القيادة الصومالية ما بعد الاستقلال تحمل مسؤولية الوطن وإلحاقه في ركب الأمم المتحضرة وتبنى رؤية ثاقبة تفضي إلى مشرع دولة كاملة الأركان ، وسبب عدولهم وتهربهم من تحمل المسؤولية لا يرجع الى ظروف البلاد آنذاك كما دأبت القادة أن تبرر بذلك بقدر ما يرجع إلى القادة أنفسهم ومصالحهم الشخصية التي يجعلونها فوق كل اعتبار ، مما جعلهم في سبيل تحقيقها يتعاونون مع الاستعمار الجديد ، الذي بدأ يستميلهم إلى جانبه منذ النصف الأخير من فترة الوصاية (1950- 1960) ويبعدهم عن أماني وآمال الشعب في ربط مصالحهم السياسية والمادية بمصالحة الاقتصادية في البلاد ، إلى أن كونوا لاحقا طبقة برجوازية ناشئة ذات مركز اقتصادي في المجتمع تربط بينهم وبين رجال الأعمال الأجانب مصالح مشتركة في داخل البلاد وخارجها [6].
لقد ارتبطت مصالح السياسيين الشخصية بالمصالح الاستعمارية وامتزجت إلى درجة الاندماج الكامل، فالسياسيون ساهموا برأس مال الشعب الصومالي إلى الشركات الاستعمارية، وتم استئجار منازلهم وفيلاتهم الفاخرة والتي عادة ما بنيت على مساعدات الصومال الخارجية وأرسل أولادهم إلى أوربا ليتعلموا على حساب هذه الشركات ليستلموا زمام الأمور في البلاد مستقبلا، وقد بدا ذلك جليا في أكثر من موقف ومنها على سبيل المثال ما أوضح وزير التجارة والصناعة في حكومة السيد: عبد الرزاق حاج حسين في خطاب ألقاه أمام الجمعية الوطنية في الثامن عشر من مايو عام 1966م ، مشيرا في خطابه إلى بعض المسؤولين الكبار في الدولة الذين تقدم لهم الشركات الأجنبية أسهم الشرف والتي هي بطبيعة الحال مقابل رفض الحكومة مشروع القوانين المتعلقة بصوملة الوظائف والمناصب في المؤسسات والشركات الأجنبية في الصومال الذي وافق عليه البرلمان في شهر مايو عام 1966م.
واللافت للنظر أن القيادة العليا كانت دائما على صلة مع الشركات الأجنبية لتحقيق مصالحها إذ باتت الأولى تؤجر للثانية مباني السياسيين وفيلاتهم وهى بمثابة رشوة تربطهم بالدوائر الأجنبية اقتصاديا وسياسيا بجانب ما تدر عليهم من أمول تدفعها لهم ممثلو الدول والهيئات الأجنبية [7]
فالقيادات المتعاقبة في العهد المدني قدمت بعض الإنجازات التي لا يمكن الاستهانة بها ، تأتى في مقدمتها نشر الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة ، مع إجراء الانتخابات في حلول مواعيدها ، بجانب بناء مؤسسات مدنية خدمت في القطاع التنفيذي بشكل مقبول ، ولكن يؤخذ عليهم المحسوبية لدى تعيين الوظائف خاصة في الوزارات المهمة كالخارجية ونحوها ، إضافة إلى الفساد الانتخابي الذي شهدته الصومال في آخر انتخابات عامة أقيمت في الصومال في عام 1967م.
ومهما يكن من أمر فالحقبة المدنية كانت أفضل من الحقبة العسكرية سواء كانت في الأداء أو في احترام حقوق الإنسان وثم حقوق المواطنين.
الهوامش:
[1] عبد الحميد محمد أحمد: أساليب السلطة والحكم في رئاسة الدولة الإفريقية “1950_ 2000م” (الخرطوم : دار عزة للنشر والتوزيع 2012) ط الأولى . ص 24 .
[2] منى عبد الفتاح: الصومال: مقالة أزمة مفهوم الدولة ، صحيفة العرب بتاريخ 12. 11. 2013 م .
[3] وهذا قد يختلف علبه لأن البعض يعتقد أن الشمال نال حصة مقبولة من مشاريع التنمية المقدمة من قبل الحكومة المركزية.
[4] أحمد إبراهيم ، مرجع سابق ، ص : 134. 135.
[5] Abdulahi Yusuf Ahmed: Halgan iyo Hagardaamo (Stockholm, Swedan Scansom Puplishers, 2012) PP. 27.31.
[6] حسن محمود عبد الله : الجبهات الصومالية النشأة والتطور (مصر : درا الأندلس الجديدة للنشر والتوزيع ،2013م ) ص 36.
[7] المرجع نفسه ، ص : 36 ، ص 37.