ثقافة واجتماعمقالات

فصل في عيد الحب: يوم فالنتاين أم يوم مغيث (1)

في العصور الأولى من تاريخ الإسلام ما كان الحديث عن الحب كعاطفة إنسانية مقدسة وليس كغريزة حيوانية مكروها ولا محظورا وإنما انسجم الناس في ذلك مع فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ حيث شاءت إرادة الله أن يجعل في جوف عباده قلبا يذوب طربا من ذكرى الحبيب أو يتصدّع كمدا لفراقه.

وقد كان الفقهاء كغيرهم من الناس يبهرون بالجمال ويعبر بعضهم عن هذا الشعور بغزل عفيف رقيق. وهذا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة احد فقهاء المدينة السبع امتلأت نفسه بعاطفة الحب ولم يستطع كتمانها. وقال في ذلك:

‎كتمتٓ الهوى حتى أضر بك الكتم … ولامك أقوام ولومهم ظلم.

وقال أيضا وقد شغف قلبه بامرأة جميلة قدمت من مكة إلى المدينة مستشهدا بفقهاء المدينة في حبها:

‎أحبك حباً لو علمت ببعضـه لجدت* ولم يصعب عليك شديد
‎وحبك يا أم الصبي مدلـهـي* شهيدي أبو بكر وأي شهـيد
‎ويعلم وجدي القاسم بن محمد* وعروة ما ألقى بكم وسعيد
‎ويعلم ما أخفي سليمان علمـه* وخارجةٌ يبدي لـنـا ويعـيد.

والفقهاء الذين استشهدهم عبيد الله هم زملاؤه من فقهاء المدينة السبع: أبو بكر بن عبد الرحمن المخزومي والقاسم بم محمد بن أبي بكر الصديق وعروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وخارجة بن زيد.

ولما بلغت هذه الأبيات إلى سعيد بن المسيب قال: ” فقد آمنت أن تسألنا ولو سألتنا ما طمعت أن نشهد بزور. وسأله البعض كيف يقول هذا الغزل وهو فَقِيه؟ قال: ( لا بد للمصدور من أن ينفث )

وهذا أيضا هو الفقيه عروة بن أذنيه يقول:

‎إذا وجَدْتُ أُوارَ الحُبِّ في كَبِدِي * عَمِدتُ نحو سقاءِ القومِ أبترد
‎هَبْنِي بَرَدْتُ بِبَرْدِ الماءِ ظاهِرَهُ * فٓمٓنْ لنارٍ على الأحْشاءِ تَتَّقِدُ؟

‎هؤلاء فقهاء زهاد منسجمون مع فطرتهم دون تكلف أو تعنت وليسوا مثل فقهائنا اليوم الذين إذا سمعوا كلمة “الحب” طاروا جزعا وسارعوا إلى الإنكار والتحريم وكأن بينهم وبينه عداوة قديمة.

‎وفِي محاضرات الأدباء، فيل لسعيد بن المسيب: إن أناسا يكرهون إنشاد الشعر فقال نسكوا نسكا أعجميا. فكذلك من يحظر الحب والحديث عنه تدينا كأنه ينسك نسكا أعجميا. وكان السلف يتحدثون ويناشدون أشعار الغزل في المسجد. وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنه يجلس عمر بن أبي ربيعة -زعيم شعراء الغزل- بجانبه في المسجد الحرام ويسمع منه شعره في الغزل.
وسئل أبن سيرين في المسجد عن رواية الشعر في شهر رمضان إنّها تنقض الوضوء فقال:
نبئت إنّ فتاة كنت أخطبها … عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول. ثم قام فأم الناس.

‎ أصاب الأمة انحطاط عام في عصور الانحطاط في جوانب حياتها المختلفة. تعطل العقل فتوقف عن الاجتهاد وتجمدت العواطف فتوقفت عن الانبجاس وتبلدت الخواطر فتوقفت عن الإبداع وضمر الخيال فتوقف عن التحليق وماتت المشاعر فتوقفت عن الإحساس.

وقد بلغ المتصوفون الذروة في التعبير عن الحب في الإسلام. فالصوفي يسمى نفسه عاشقا وما عداه معشوقا. أحب الله فأحب خلقه فلا يرى في العالم شيئا إلا ويرى فيه عجائب قدرته وجمال صنعته حتى أصبح الوجود كله صورة مصغرة لوجود الله. ليس في قلبه شيء غير حب الله وحب مخلوقاته. حبهم أسمى درجات الحب وأعلاه فهو حب الأرواح وفناء الذات.
وقد قال قائلهم:

أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه * فالحب ديني وإيماني

إن تخصيص يوم من الأيام وجعله عيدا للحب ليس فيه ما يخالف الشرع، مثله كمثل تعيين يوم للمناسبات الاجتماعية الأخرى مثل يوم الأم ويوم المعلم ويوم المرأة وغيرها من الأعياد التي ليس لها علاقة بالدين أو العبادة وإنما هي مجرد مناسبة لتذكير قيمة من القيم والإعلاء بشأنها والعمل على تنميتها وتطويرها. عيد الحب إذاً ليس إلا يوما لتذكير قيمة الحب وأهميته في تقوية العلاقات الإنسانية والأسرية والأخوية، وهذا مبدأ أصيل من مبادئ الإسلام. أما من يقول أن هذا جاء من الغرب فليس في ذلك علة كافية للتحريم. فكل ما جاء إلينا من أفكار وقيم وعادات نعرضه على مبادئ الإسلام رفضا وقبولًا بغض النظر عن مصدره.

من حق العلماء أن يشددوا على أنفسهم ما شاءوا التشدد، ولهم أن تزهدوا في الحب ما أرادوا التزهد، ولهم أن يتعففوا عن الحب ما وسعهم التعفف، ولكن ليس من حقهم أن يشددوا على الناس ويزهدوهم فيما أباح الله لهم من إظهار عواطفهم الإنسانية. فان هم تشددوا فقد أباحه من هو اعلم منهم، وان هم تزهدوا فقد رغب فيه من هو أفضل منهم، وان تعففوا فقد خاض فيه من هو خير منهم.

إن منهج الإسلام في معالجة مثل هذه الأمور من المباحات ليس منهج الحظر والتحريم والتكتيم، وإنما الطريقة المثلى في ذلك هو إبقاء الإباحة الأصلية مع تنظيمها وضبطها في حدود الشرع ومبادئ الدين إذا كان هناك فيها بعض المخالفات الشرعية. فالرسول عليه الصلاة والسلام أبطل أعياد الجاهلية وجاء بعيدي الفطر والأضحى للمسلمين. وفي يوم أحد عند ما قال أبو سفيان اعل هبل، اعل هبل قال الرسول لأصحابه قالوا له: الله أعلى وأجل، ثم لما قال: لنا العزى ولا عزى لكم. قال الرسول قولوا له الله مولانا ولا مولى لكم.

وإذا عرفنا أن الإسلام لا ينكر الحب كعاطفة فطرية نبيلة فانه ليس أمام المسلمين في هذا الموضوع إلا أحد خيارين. إما أن يحتفل من شاء منهم مع العالم في ذكرى هذا اليوم كمناسبة اجتماعية. وإما أن نجعل لنا يوما معينا بعيد الحب. وإذا كان الغرب قد سموا عيد حبهم ” يوم فالنتاين” امتنانا وتقدير لدور هذا الراهب في تضحيته في سبيل الحب، فإنني اقترح ان نخصص للحب عندنا يوما نسميه “يوم مغيث”، تقديرا لدور هذا الصحابي ومعاناته وإخلاصه للحب، فنقول لهم حينئذ: لنا مغيث ولكم فالنتاين. وقبل ذلك اليوم فلا لوم على الشباب إذا احتفلوا بيوم الحب ويقوي المتحابان من المتزوجين ما ضعف من حبل المودة وينفضوا عنه ما ران عليه من غبار الأيام. ولا جناح على الرجال إذا قدمن الهدايا لأزواجهن تعبيرا عن تقديرهم لدورهن وصيحاتهن في سبيل استقرار العلاقة الزوجية. ولا حرج على الزوجات أن يدخلن الفرح والسرور على قلوب شركاء حياتهن ويجددن حبهن وثباتهن على العهد.

ولا يظنن أحد بِنَا الظنون ولا يسرح بخياله المسارح؛ فحديثنا مقصور على الحب العفيف الفطري الذي جعله الله في قلوب عباده، وهذا من جنس الأرواح وليس من جنس المادة، فالأول يسمو إلى السماء وتتألف فيه الأرواح والثاني ينحط إلى الدرك ويهتم في الجري وراء الشهوات. وقد روي عن الرسول عليه السلام انه قال “ما رأيت للمتحابين خيرا من النكاح” إي الزواج. ونفهم من الحديث انه لا باس بالحب بين فتى وفتاة، ولكن العلاج الناجع للحب هو تتويجه بالعلاقة الزوجية. فالزواج هو الذي يعمق الحب ويسمو به ويعطيه معنى إنسانيا ” هو الذي خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة”. والفرق بين الحب الزائف والحب الحقيقي لا يظهر إلا في الزواج؛ لان الحب فبل الزواج كمثل النائم الحالم يحلق في السماء وبعد الزواج يهبط إلى الأرض ويتحول إلى مسئولية. فالحب الحقيقي ينمو بالزواج ويترسخ بالمعاشرة، أما الحب الزائف فيتلاشى بالزواج ويضمحل بالمعاشرة.

الحب وحده لا يبني البيوت. فالزواج في الإسلام مسؤولية ومعاشرة وسكن ومودة ورحمة. فقد جاء رحل إلى سيدنا عمر بن الخطاب يخبره انه يريد فراق زوجته؛ لأنه لا يحبها فقال له عمر قولته الشهيرة ” أو كل البيوت تبنى على الحب، فأين الرعاية وأين التدمم”. وللأسف، حب كثير من شبابنا وشاباتنا اليوم شبيه بهذا الحب الحالم الذي لا يصمد في وجه معترك الحياة الزوجية الحقيقية، ومن ثم يتلاشى ويسقط في أول اختبار حقيقي له على واقع الحياة وأمواجها الهائجة وما يعرض له من المشاكل والعقبات التي تحتاج إلى صبر ومصابرة ومثابرة وتحمل وما إلى ذلك من أنواع الرعاية والتذمم.

ونختم هذا الفصل بفتوى فاصلة وعميقة لشيخ الأدباء وأديب المشايخ على الطنطاوي، وعند جهينة الخبر اليقين حيث يقول ” ما في الحب شيء ولا على المحبّين من سبيل، إنّما السبيل على من ينسى في الحبّ دينه أو يضيّع خلقه، أو يهدم رجولته، أو يشتري بلذّة لحظة في الدنيا عذاب ألف سنة في جهنّم”. فكل فتوى بعد فتياه هذه لاغيه، وكل قول بعد قوله هذا هذر. وقد تعمدت في جعل قوله هذا في خاتمة المقال؛ لأنني كنت أعرف أن أي كلام بعد كلامه هذا ليس إلا لغوا من القول.

ختاما، أيها الأصدقاء أكثروا ذكر الحب في يوم الحب، وقولوا ” أحبك ” لمن تحبونهم فبل فوات الأوان.

المراجع:

١- في الجواب الكافي لابن القيم.
٢- طوق الحمامة لابن حزم.
٣- محاضرات الأدباء للأصفهاني.
٤- من غزل الفقهاء على الطنطاوي
٥- مصارع العشاق للدكتور زكي مبارك.
٦- العمدة في محاسن الشعر لابن رشيق.

عبد الواحد عبد الله شافعي

كاتب صومالي من مواليد بورعكر حاصل على درجة الليسانس في الدراسات الإسلامية واللغة العربية من كلية الدعوة في ليبيا في عام ١٩٩٤. نال دبلوم ماجستير في اللغة العربية وآدابها من الكلية نفسها في عام ١٩٩٦. حصل على ماجستير في اللغويات وتعليم اللغات الأجنبية من جامعة لندن متروبولتان في بريطانيا في عام ٢٠١٦. يعمل في خدمة الجاليات المسلمة في بريطانيا. له مقالات وبحوث فكرية وسياسية منشورة في الصحف والمواقع العربية. يهتم بالثقافة وقضايا الفكر السياسي عامة والإسلامي خاصة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى