من يجرؤ على محاربة القات فى القرن الأفريقي (٢)
عرفنا من خلال المقال السابق خطورة القات على الفرد والأسرة والمجتمع والدولة، ورأينا استحالة بناء مستقبل حقيقي مع القات، ذلك لأن وجود ظاهرة ( التخزين ) مناقضة لسنة الله في التطور، فتخزين القات حالة سكونية، وخروج من التعامل مع الزمن، ولهذا فلا يمكن لشعب أن تكون له فاعلية في خارج الزمن، أي الاستفادة القصوى من الزمن، ولاحظ الدكتور عماد الدين خليل، الباحث العراقي في شؤون التاريخ والحضارة أن القرآن منح البعد الزمني في صناعة الحضارة الأولوية القصوى، بل تجاوز القرآن مسألة العمل، واستغلال الزمن، ورأى أن المسلم الحضاري هو الذي يلتفت إلى أن الزمن يحتاج إلى مسألة غاية في الأهمية، وهي المنافسة، والمسارعة، والمسابقة، وكل هذه الألفاظ تؤكد على الركض، والجري، وليس فقط على العمل والمشي، وهذه المفردات لم تأت في الوحي اعتباطا ( وسارعوا ) في أكثر من موقع، ( ويسارعون ) بهذه المفردة، وبصيغة المضارع، والتي تفيد حالة مستمرة، ونجد أيضا مفردة ( وسابقوا )، كما نجد قوله تعالى ( فليتنافس المتنافسون ) هكذا تتكرر الأوامر لأجل صناعة عمل حضاري .
كيف يمكن لأمة الاستخلاف الحضاري أن تقوم بهذه المهمة، وأبناؤها مخدرون، وخارجون عن السياق الحضاري بسبب تعاطيهم لهذه الشجرة؟، وكيف يمكن لأمة ورد في كتابها ( استعمار ) الكون لصناعة الحضارة، والتأهل للاستخلاف الحضاري، وأبناؤها يخرجون من الحياة يوميا لأجل الذهاب إلى ما يسمى بالراحة الوهمية؟
تتحدث إحصائيات عالمية تم نشرها سابقا بأن الدول ذات الثقل الحضاري تتنافس في ساعات العمل، فالإنسان الياباني يبقى في العمل أكثر من سبع ساعات، بينما الإنسان الأوروبي (الألماني) نموذجا يبقى في العمل أكثر من ست ساعات، ويتردد الإنسان الأمريكي بين خمسة، وستة من الساعات، ولهذا نجد التنافس محموما بين هذه الدول في المجالات المختلفة، وتشير الدراسة ذاتها بأن الإنسان في الخليج يعمل في اليوم أقل من ساعة واحدة، وأشارت دراسة حديثة بأن معيار النجاح لا يعنى ساعات العمل، أو الوجود الفيزيائي للشخص في ساحات العمل، ومدة مكوثه، ولكن المعيار هو الشعور بالسعادة مع العمل، والإنتاجية الحقيقية، والالتزام، ومن هنا فلا يستطيع أن يقدم المُخزِّن للقات شيئا ذَا بال لنفسه، ولمجتمعه، فهو يمثل عبئا، وكلّا، وليس عدلا .
هنا يأتي سؤال، ما الحل لهذه المعضلة الحضارية؟ ويجب أن نعترف أن المشكلة ليست عادية، ذلك لأنها أصبحت فكرة، وعادة مجتمعية، ومتجذرة في الذات، والغريب أن الإنسان في القرن الأفريقي، واليمني عُرف به كعادة، فقد وجدت الناس وهم يتعاطون القات في أوروبا، وأمريكا الشمالية، والصين، ويستخدمون كل أدوات التحايل لاستيراده، وبدأت الدول الكبرى، والتي تساهلت التعامل مع الظاهرة تتنبه لخطورتها، وتعلن بعض الإجراءات المتشددة لأجل منعه، أو خفض استيراده، ويتم كل ذلك بعد رصد علمي لمضاره، وخطورته على الأمن القومي، والصحي، ولهذا بدأت هولندا، وبريطانيا كأهم دولتين متساهلتين تشديد الخناق عليه، وعلى من يقوم باستيراده، ومع هذا ما زال الإنسان اليمني، والمنحدر من شعوب القرن الأفريقي يتعاطى الشجرة بأسلوب غير حضاري .
لدينا حلول ثلاثة، كلها فشلت، ومن أهم تلك الحلول، الحلول الفوقية، وهي الذي تتبناها السلطات وحدها في محاربة القات، وقد فعلها الرئيس الأسبق للصومال الجنرال محمد سياد بري، والرئيس السابق لجيبوتي بعد الاستقلال السيد حسن جوليد، ولم ينجح القرار الفوقي في إيقاف المعضلة، بل ازداد رغبة الناس به، وأرادت الولايات المتحدة محاربة الخمور بهذا الأسلوب، وأصدرت قوانين تمنع صناعتها، ولكن الناس ازدادوا رغبة بها، وقاموا بتصنيعها بشكل غير قانوني، وبعيد عن عيون الدولة، فكانت الكوارث، ولهذا تراجعت الحكومة الأمريكية عن القرار، وهكذا فعلت السلطات الجيبوتية أيضا مع ظاهرة القات .
هناك حل آخر، وهو أيضا لا يأتي بنتيجة، وهو الحل الجزئي، أي محاربة القات دون معرفة الأسباب، والبيئات الداعمة لتعاطيه، وغياب سياسات جريئة، فهذا النوع من الحل أيضا لن يكون داعما لمحاربة تعاطي القات، أما الحل الثالث، وهو الذي كذلك لا يأتي بنتيجة فاعلة، وهو الحل المتسرع، والذي لا يراعى البعد الأخلاقي، ومآلات الفعل السياسي، وعدم النظر إلى المشكلة بشمولية، إذا ما هي الحلول الممكنة والفاعلة في هذا المجال؟ إليكم حلول عشرة، وهي اجتهاد منى، يمكن الإضافة عليها، أو تعديلها :
أولا: إن محاربة القات يجب أن تكون أولوية للدول كلها، فلا تستطيع أن تحارب دولة معينة، بينما الدول الأخرى تدعم وجوده، وترى في وجوده البعد المالي، أو إضعاف الخصم سياسيا واستراتيجيا من خلال دعم القات وشركاته، وتلك خطيئة إستراتيجية، فآفة القات لن تكون لصالح دولة دون دولة، ولهدا فلا بد من إستراتيجية واضحة المعالم لجميع الدول في مواجهة هذه الآفة الحضارية .
ثانيا: لا بد من وضع برنامج لديه رؤية، ورسالة، وأهداف مرحلية، وأخرى بعيدة في مواجهة الأزمة، ويجب أن نستفيد من الدول التي نجحت في محاربة آفات شبيهة لتلك الآفة كالصين، والتي نجحت في مواجهة الأفيون في الخمسينيات من القرن الماضي، فلا نجاح بدون وضع برنامج واضح للدول كلها، وقابل للتطبيق.
ثالثا: ضرورة إعداد دراسات علمية حول المضار الحقيقية للقات على الفرد، والأسرة، والمجتمع،وخطورته على الأمن القومي، وتتطلب هذه الدواسات ميزانيات خاصة، وتفريغ بعض الناس لهذه المهمة، وأفضل من يقوم بذلك هي الجامعات، والمراكز المتخصصة، ومن العيب أن نجد اليوم دراسات كثيرة حول بعض المظاهر السيئة في المجتمع، ولكن لا نجد دراسات ذات أهمية في مسألة القات .
رابعا: رفع الوعي المجتمعي في مواجهة آفة القات، ولتحقيق ذلك، يجب استغلال كل الأدوات، وخاصة الإعلام، والمساجد، ولا يعنى ذلك إصدار الفتاوى في تحريمه فقط، بل فلا بد من إقناع المواطن والمواطنة خطورة القات، وأن الإقلاع من عادة التعاطي ضرورة، وفريضة، وفي هذا فائدة للمواطن .
خامسا: لا بد من صناعة البديل، فلا يمكن ترك عادة متجذرة في الذات بسهولة، وخاصة لمن يمارس تلك العادة بسبب وجود عدم البديل، ولهذا يرى علماء التغيير، أن غياب البديل عن العادة السيئة بديل لعدم الإقلاع عن العادة السيئة، فإن علماء التغيير يَرَوْن أن من أهم البدائل تغيير أسلوب الحياة، فالإنسان ابن بيئته، ونتيجة السلوك الاجتماعي، فلا تغيير مع وجود البيئة الداعمة للقات تعاطيا .
سادسا: وضع برنامج تعليمي وتربوي يكون من مقررات المنهج التعليمي، ويكون موجودا كمفردات تعليمية، ومقررات دراسية في كل المراحل مع مراعاة متطلبات كل مرحلة، ولهذا البرنامج التعليمي مردود على المستوى الزمني البعيد، ذلك لأن مواجهة القات بدون آليات تربوية وتثقيفية تكرار للفشل .
سابعا: رفع الضرائب على الشركات، والأشخاص الذين يستوردون القات، وتذهب بعض عائداتها على وزارات الصحة، والتعليم، والشباب والرياضة، والمرأة ورعاية الأسرة، ذلك لأن القات مشكلة صحية، واجتماعية، ولهذا فلا بد من تشديد الضرائب عليه، وهذه خطة مفيدة كسياسة إجرائية، ومتدرجة، ويجعل البعض من أهل التعاطي التقليل منه، أو التفكير في الإقلاع من هذه العادة السيئة .
ثامنا: إصدار تشريعات من الجهات التشريعية من شأنها تقليل مضاره على الدولة والمجتمع، ومنها أن يمنع منعا باتا في تعاطي القات في أوقات معينة كالساعات الأولى من النهار ( الصباح )، وفي أماكن معينة ( كالدوائر الحكومية) وأن يكون من مواصفات المتقدم للعمل أن لا يتعاطى القات وغيرها، وخاصة في بعض المجالات التي تقتضى الحضور الذهني، أو الكفاءة الجسدية والنفسية .
تاسعا: إعداد مشاريع تجارية متوسطة للعاملين والعاملات في تجارة القات كبديل تجاري لهم، ذلك لأن القات بالنسبة لهم، ولهن مصدر رزق، وليس من الحكمة أن نحارب آفة، ونصنع للمجتمع آفات أخرى، فلا يجوز مواجهة المشكلة بمشكلة، أو الضرر بضرر مثله كما يقول علماء الفقه .
إن آفة البطالة لا تقل سوءا عن آفة القات، فهما في السوء سواء، ولكن لا بد من تفكير استراتيجي في صناعة البديل، وهذه تتطلب إقامة مراكز علمية من شأنها إعداد البدائل الممكنة، ولكل منطقة بدائل متاحة، وقابلة للتطبيق .
عاشرا: إعداد المشاريع الداعمة لمواجهة العادات السيئة، وخاصة تلك المتعلقة بالعادات الضارة للصحة، ومن أهمها الرياضة بأنواعها، وخاصة للشباب الذين يمثلون مستقبل الأمة، ومن الغريب في القرن الأفريقي، واليمن أن أغلب المتعاطين مع القات هم الشباب، أي الفئة التي تكون أعمارها ما بين ( ١٦ – ٣٠) عاما، وهذه الفئة تعتبر الفئة المنتجة .
إن ممارسة الرياضة عادة، ولكنها عادة إيجابية ونافعة، وتتطلب تلك العادة من الدول دعما خاصا، ونحن نلاحظ في الدول المتقدمة بأن البعض منها يدعم ركوب الدراجات لأسباب صحية وبيئية، ولهذا نجد استخدام بعض المسؤولين في الدراجات بدل السيارات للذهاب إلى العمل، أو التسوق، والسبب هو أن الناس على دين ملوكهم كما قال السابقون، وأن الأقل شانا يتبع في العادات الأكثر شأنا، وكما أن العادات السيئة تنحدر من الأعلى إلى الأسفل، فالعادات الإيجابية تنحدر كذلك من الأعلى إلى الأسفل .
لا شك في أن العادات تُزْرع، وترسّخ، ولكنها كذلك تتطلب إلى صناعة بيئة داعمة لها، ومن هنا فلا بد من إعداد حلول شاملة مع مراعاة القاعدة التي تؤكد ( أن الزمن جزء من العلاج ) أي أن تكون الحلول متدرجة، وإن لا تقفز فوق سَنَن التغيير، كما أنه لا بد من إرادة سياسية، فلا تغيير بدون إرادة سياسية، وليس من الحكمة أن نتحدث عن تغيير العادات، بينما رجال الدولة ليسوا أهلا للتغيير، ولهذا فشلت تجربة ( آخر غصن ) في اليمن؛ حيث رمى رئيس اليمن السابق السيد على عبد الله صالح غصنا من القات عبر الإعلام، وقرر ترك عادة مضغ القات، وبدء ممارسة الرياضة، ولكن الناس علموا أن ذلك لم يكن صحيحا، فهذا النوع من الازدواجية من أصحاب القرار لا يفيد في صناعة التغيير الإيجابي .
إن الحياة بدون ( القات ) جميلة، ومفيدة، ولكن هل نحن مستعدون لصناعة عالم بلا قات؟ ممكن، ولكن لا بد من عمل جاد، والسؤال، هل نحن مستعدون للقيام بهذا العمل؟ ممكن، ولكن لا بد من إرادة سياسية جادة، والسؤال مرة ثالثة، هل السياسي عندنا لديه الشجاعة الكاملة في قول، نعم للتغيير لأجل مجتمعنا؟ ممكن، ولكن هل لدى صاحب القرار من مشروع؟ هنا تكمن القصة كاملة.