الرئيسية / ثقافة واجتماع / العلاقة بين الطغيان والاستكانة

العلاقة بين الطغيان والاستكانة

كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، وبعد ختم الأنبياء بسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وسقوط الخلافة الإسلامية، وظهور الدولة العصرية تزداد الحاجة لحكام يشاركون الناس في القرار السياسي، ويتعاملون مع شعوبهم كمواطنين، وليسوا كقطيع من الغنم لا تحتاج إلا إلى راع يشبعها ضربا بدل الخبز ويوجهها أنى شاء وكيف شاء؛ فتصبح هينة ذليلة مطيعة مضروبة عليها الذلة والمسكنة، لا يطمحون إلى معالي الأمور، ولا يحدثون أنفسهم نيل عز أو حفظ كرامة. إذا استضعف الحاكم شعبه وأذاقهم صنوف القهر والذل فلن يقدروا مواجهة الآخرين ولا يثبتون لعدو ولا تأخذهم الأنفة لاسترداد حق مغصوب أو دفع ظلم واقع عليهم.

تعرفون قصة بني إسرائيل الذين عاشوا في مصر تحت طغيان الفراعنة وظلمهم وإذلالهم حتى اعتادوا الذلة والمسكنة كما تعلمون في قصة نبي الله موسي وضربته القاضية لقبطي رآه يضرب أحد أبناء قومه من بني إسرائيل وهو واقف مثل الخشبة لا يدافع عن نفسه وإنما يدير له الخد الأيمن إذا ضرب على خده الأيسر؛ لأنه تربى على القهر والخضوع.

ولحكمته سبحانه وتعالى تربى موسى في قصر فرعون، ولو أن موسى تربى في بيت أسرته كما تربى غيره من أبناء قومه لاعتاد الذلة والمسكنة ولما تجرأ على ضرب القبطي، ولما كان مؤهلا لحمل الرسالة وإنقاذ بني إسرائيل. وليس شيئا يسيرا إنقاذ أمة ألفت القهر والظلم. ولما عبر الإسرائيليون البحر بقيادة موسى لدخول فلسطين ضعفوا عن المواجهة، وجبنوا عن القتال قائلين لنبيهم: (يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها(.

وهذا الجبن عن مواجهة الأعداء ليس شيئا خاصا ببني إسرائيل وإنما ينطبق ذلك على أية أمة من الأمم نالها الاستضعاف والقهر من حكامها أو من أمة أخرى غازية تحتل أراضيها وتسومها سوء العذاب حتى ألفت الظلم وانطبع في نفوسها الانقياد والاستسلام.

فحال المسلمين اليوم قريب من حال بني إسرائيل في عهد موسى، فهم استكانوا بعد غزوهم واحتلال أرضهم ثم خلف الغازون من بعدهم خلف من بني جلدتنا كانوا أشد منهم قسوة وبطشا وتسلطا حتى صار ذلك مألوفا لديهم. ويرون أن كل من سولت له نفسه لاسترداد حق أو دفع ظلم مثيرا للفتن أو يخاصم الحكام حقوقهم في ظلم الناس، وكأنهم استمرؤوا الظلم فلا يريدون الانفكاك منه. ولو كانت هذه الاستكانة وذلك الاستمراء مقصورا على العامة من الناس لكان الأمر يسيرا ولكن – للأسف – جاوزهم إلى النخبة والعلماء الذين حولوا الدين من قوة دافعة للتحرر إلى أداة من أدوات القهر في أيدي الطغاة.

وكان سيدنا عمر بن الخطاب – الخليفة الراشد – يدرك ببصيرته العميقة العلاقة بين الطغيان واستكانة الشعوب وانقيادهم للظلم. ويروي انه كان يقول (ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم). فعمر هنا فهم بعبقريته الفذة العلاقة بين ضرب المسلمين وميلهم للذلة وبين منعهم حقوقهم وجرهم إلى الكفر. والكفر هنا ليس هو الذي يخرج عن الملة ولكنه كفر طاعة الحاكم واستباحة الخروج عليه.

ولأمر ما جعل الله رسالته الخاتمة في صحراء العرب ولم يجعلها في مواطن الحضارة وسليل الملوك والسلاطين؛ لأن العرب في صحرائهم عاشوا في حرية مطلقة، ولم يعرفوا الملوك وجبروتهم ولا السلاطين وتسلطهم فكانت فيهم الصفات اللازمة لحمل الرسالة من عزة نفس وكرم خلق وتضحية النفس والنفيس من أحل مبدأ يُؤْمِنون به، وتلك صفات قلما توجد في أمة عاشت تحت حكم الملوك وما يقتضي ذلك من الإكراه والقسر مما ينطبع في نفوس شعوبهم ويورثهم الاستكانة؛ فلا يقدرون دفع الضرر عن أنفسهم بله أن يقوموا بحمل رسالة دينية تتطلب التضحية والجهاد.

ولولا أن الله ختم الرسالة لجعل النبوة في الصوماليين؛ لأنهم أبعد الناس عن الخضوع للظلم وتسلط الطغاة وألفوا الحرية المطلقة في حياتهم البدوية يتنقلون كيف شاؤوا وأنى شاؤوا إلى مواقع الغيث مع جمالهم لا تقيدهم سلطة ولا يفرض عليهم أمر من ملك أو سلطان، وهم في ذلك أشبه بالعرب قبيل الرسالة.

 وقد كاد الصوماليون الرحل يقضون على إمبراطورية الحبشة الممتدة إلى عصور ما قبل الميلاد في القرن السادس عشر الميلادي بقيادة الإمام أحمد بن إبراهيم لولا نجدة الأسطول البرتغالي. وليس هناك أمة من الأمم في العالم اليوم تحدث نفسها في مواجهة أمريكا؛ لأنها مهزومة نفسيا قبل دخول أي معركة فيما يسمعون من قوة الخصم واستحالة قهره؛ ولكن المليشيات الصومالية التي ربما لم يسمع بعضهم قوة أمريكا وربما ظن أنه ليس في الكون قوة أكبر ولا أقوى من عشيرته استطاعت أن تثبت لأمريكا عام ١٩٩٣ في معركة من أشرس المعارك مع الجنود الأمريكيين فيما يعرف بعملية صقور الصقر الأسود ( Black Hawk down) وفرضوا عليه الانسحاب المهين.

فما يراه الناس أحيانا نقطة ضعف قد يتحول إلى نقطة قوة، وما يرونه موقع قوة قد يكون موطن ضعف. وهذا ما تنبه إليه ابن خلدون عند ما ذكر أن العصبية والبداوة والخشونة هي أساس الملك (الدولة) وأن الحضارة وما يتبعها من الترف والدعة والسكون يفضي إلى انهيار الدول والحضارات. ولا يعني ذلك تشجيعا للبداوة ومدحا بها بقدر ما يعنى اعتبارها مرحلة أولية للنهوض.

عن عبد الواحد عبد الله شافعي

Avatar
كاتب صومالي من مواليد بورعكر حاصل على درجة الليسانس في الدراسات الإسلامية واللغة العربية من كلية الدعوة في ليبيا في عام ١٩٩٤. نال دبلوم ماجستير في اللغة العربية وآدابها من الكلية نفسها في عام ١٩٩٦. حصل على ماجستير في اللغويات وتعليم اللغات الأجنبية من جامعة لندن متروبولتان في بريطانيا في عام ٢٠١٦. يعمل في خدمة الجاليات المسلمة في بريطانيا. له مقالات وبحوث فكرية وسياسية منشورة في الصحف والمواقع العربية. يهتم بالثقافة وقضايا الفكر السياسي عامة والإسلامي خاصة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*