كنت في مدينة كسمايو الساحلية غداة الإعلان عن تأسيس ولاية بونتلاند في أغسطس 1998 وأتذكر جيدا أني استمعت إلى القسم الصومالي لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) مع صديق عزيز يعيش الآن في بريطانيا، التي أذاعت بأن المؤتمرين في غرروي أعلنوا عن ميلاد كيان سياسي وإداري أطلق عليه ولاية بونتلاند الصومالية في وقت لم يكن في الصومال أي مظهر من مظاهر الدولة والنظام سوى نظام صوماللاند الذي أعلن انفصاله عن باقي الصومال في مايو 1991 بعيد انهيار النظام العسكري في يناير من نفس العام. عقد المؤتمر الفترة من 15-17 مارس 2020 بقاعة جامعة ولاية بونتلاند وشارك فيه وفود تنتمي إلى ولاية بونتلاند من المستوى الفيدرالي ومن المسؤولين في بونتلاند وسياسيين ورجال أعمال وشيوخ العشائر وأكاديميين والشباب وممثلين من المجتمع المدني والمغتربين من كافة الأطياف لتدارس أوضاع الولاية واستشراف مستقبل علاقتها بالدولة الفيدرالية.
وهنا لا أريد سرد وقائع ومداولات المؤتمر فأغلب الجمهور تابعها في البث المباشر في القنوات التلفزيونية ولكن أود تسليط الضوء على خبايا وكواليس المؤتمر التي لا تظهر للمتابع عن بعد.
أولا: كان من دواعي سروري أني حظيت بشرف حضور المؤتمر التشاوري لبونتلاند الذي ضم مشاركين من شتى المشارب ومختلفين في السن والمؤهلات والخبرة مما يحتم تباين وجهات النظر في الملفات المطروحة أمام المؤتمر وتقييم مسيرة الولاية منذ تأسيسها؛ وهذا أمر إيجابي وصحي وذلك لأصلاح مواطن الخلل، وشخصيا كنت ولا زلت أعتقد بفكرة إعادة بناء الدولة من القاعدة إلى القمة وتأسيس الإدارات في كل المناطق التي تتحد طوعا حسب إرادتها السياسية وهو ما تقوم عليه مبدأ الفيدرالية الذي ينص عليه الدستور الفيدرالي المؤقت. أما فرض وإنشاء الولايات من القمة إلى القاعدة خطأ وسيتسبب في إنهيار هذه الإدارات عندما تختفي الظروف التي فرضتها.
ثانيا: هناك فجوة بين جيل المؤسسين للولاية والجيل الحالي، فمثلا السياسي المخضرم طاهر مري جبريل أطال الحديث في كلمة له عن ظروف تأسيس الولاية والنضال التاريخي لجبهة الخلاص الديموقراطية (SSDF) وفي غضون إلقاء كلمته كنت أسمع شبابا يجلسون معي في نفس الصف يقولون من يسكت هذا، إن هذا الخطاب عفا عليه الزمن ولم يعد له لزوم. وهذا يدل على رغبة جامحة للشباب في الانعتاق من أغلال الماضي ومآسيه والانفتاح نحو المستقبل وهذا مؤشر إيجابي وينبغي استغلال هذه الرغبة في البناء والنهضة بدل ضياعها.
ثالثا: هناك لبس في فهم هوية بونتلاند ولكن من يتعمق فيما وراء المشاهد والكواليس يدرك أن إدارة بونتلاند تأسست من رغبة الأهالي كنظام عضوي مترابط بين سكانه بهدف تنظيم أمورهم بدون تدخل من أحد سواء من داخل البلاد أو خارجه فهو نظام نابع من بيئته يرى نفسه مستقل بذاته إداريا ومشارك في رسم سياسات الدولة الفيدرالية مع بقية الولايات؛ لذلك الأهالي يستميتون في الدفاع عن ولايتهم لمعرفتهم أن انهيارها خسارة كبيرة لمكتسبات ٢٢ عاما بغض النظر عن اختلافات وجهات النظر بينهم وبالتالي فمن الصعب فرض أجندات لا تلبي طموحات سكانه.
رابعا: من كواليس المؤتمر أن الوفد الفيدرالي من أبناء بونتلاند من الوزراء والنواب من مجلسي البرلمان الفيدرالي كانوا خارج السياق عن مداولات المؤتمر والتعاطي مع الولاية التي تعتبر نفسها أم الفيدراليه وتسعى لتقاسم السلطة والثروة حسب الدستور الفيدرالي، والرأي السائد أن نظام” نبد ونلل” الذي يعني السلام والإزدهار حاد عن المبادئ الفيدرالية ولذلك كان الوزراء يبدون كمن يحمي مناصبهم بغض النظر عن الصواب والخطأ، فمثلا أحد الوزراء ذكر بأن الحكومة الفيدرالية حققت إعفاء الديون عن الصومال وعلينا أن نؤيدها فسمعت من رجل بجانبي يقول – علمت في بعد أنه خبير اقتصادي ـ لماذا يكذب هذا الوزير لا يوجد إعفاء ديون عن الصومال وكلما في الأمر أننا في طور تخفيف عبء الديون الذي بموجبه يتم إسقاط بعض الفوائد على الديون مع شروط قاسية.
خامسا: من المشاهد التي رأيتها في وقت الغداء التي تأخرت بعض الشيء حيث ساد الهرج في القاعة وعدم الانضباط وأغلب من أثار الفوضى كانوا من المغتربين الذين يتسمون بالتسرع والطيش ويبدو أنهم لم يستفيدوا من الاحتكاك في المجتمعات التي اغتربوا فيها؛ وبدوري كأحد المغتربين هممت بتصوير بعض هذه الأخطاء ونشرها إلا أن شيخا مسنا من المحليين نبهني بأن من عدم الحكمة نشر كل أخطاء المؤتمر في وسائل التواصل الإجتماعي ولهذا عدلت عن الفكرة نزولا عند نصيحة ذلك الشيخ الحكيم.