الرئيسية / السياسة / الصومال: دولة ام حطام دولة؟

الصومال: دولة ام حطام دولة؟

دخلت الصومال في منعطف خطير بعد ان أعلنت الحكومة فشل المفاضات بينها وبين شركائها السياسيين، وقام مجلس الشعب في الثاني عشر من هذا الشهر بتمديد فترة ولايته وولاية الرييس المنتهية في الثامن من فبراير من هذا العام، وبذلك اغلقت الحكومة النافذة الوحيدة المفتوحة للوصول الى حل سياسي يتفق عليه جميع الخصوم السياسيين؛ لتجنيب البلاد من الفوضى والانزلاق الى سيناريوهات يصعب التنبؤ بعواقبها.

يعتبر النظام السياسي الصومالي الحالي نظام هش في الأساس، ويقوم على المحاصصة العشائرية  التى هي بيت الداء الذي تنبع منه جميع الادواء الاخرى حيث تعيق المحاصصة كل أمل يحلم به الشعب في انشاء دولة المواطنة التي يكون فيها المواطن شريكا أساسياً في الحكم عن طريق المؤسسات الدستورية التى تخوله الحق في مشاركة القرارات السياسية، بصفته مواطنا يتمتع بحقوق المواطنة الذي يكفله له الدستور، وليس بصفته رعية من رعايا الحكام كقطيع من الأغنام يسوقها الراعي بسوطه كيفما شاء.

هذه المحاصصة العشائرية أفرزت نظاما فيدراليا مشوها، يتيح للعشائر المتنفذة رفع رايتها على المناطق التي يشكلها أفرادها أغلبية نسبية، أو لها نفوذ يمكنها من التحكم على مصائر العشائر الاخرى في المنطقة، وتشكّل على ذلك الولايات الفيدرالية التي تملك حق المفاوضة مع المركز في القرارات السياسية المصيرية، نيابة عن مصالحهم الشخصية او عن مصالح العشائر الاخرى التي يمثلونها . وهنا تغيب المصلحة العامة بغياب مفهوم الدولة الوطنية التي تمثل المصلحة العامة، ويحل محلها مصالح العشائر والبطون والافخاذ. وهذا المزج بين مفهومين متناقضين، وينتميان الى منظومات فلسفية واجتماعية واقتصادية وتاريخية مختلفة يعتبر اشكالية كبرى . فالقبيلة لها مجالها الخاص، ومصالحها الذاتية، وروابطها الاجتماعية، وأعرافها التقليدية. وكذلك الدولة تمثل المصالح العامة للامة بدساتيرها وقوانينها وثقافتها وظروف تطورها الخاص. وأي محاولة للجمع بين المنظومتين في نظام واحد كمن يجمع النقيضين، ويفضى بنا ذلك إلى تشويه صورة كل من المنظومتين، وإفراغهما من مضمونهما الحقيقي، وتوظيفهما في مجال غير مجالهما، ومن ثم ينتجان مصالح متضادة.

المجتمع الصومالي مجتمع قبلي، وكانت القبيلة تمثل موسسة اجتماعية تنظم علاقات الأفراد بعضهم ببعض، وعلاقاتهم مع القبائل المجاورة سلما وحربا وتعاونا وخصومة. فكان لكل قبيلة نظامها الخاص الذي يمثل مصالحها الخاصة، حتى جاء الاستعمار وما اقتضى ذلك من الكفاح للتحرر من الاحتلال الأجنبي. وبعد الاستقلال كان التحدي الأخطر الذي واجه الصومالين هو كيفية بناء دولة مدنية حديثة في مجتمع قبلي لم تكن لديه خبرة سابقة في بناء نظام سياسي مدني يجمع الولاءات العشائرية  المشتتة في ولاء موحّد لدولة تراعي مصالحه العامة. ولم يكن هذا التحدي سهلا؛ اذ ان عملا كهذا يحتاج الى حملة توعية طويلة الأمد، وتهيئة نفسية لهذا التغيير العميق في البنية الاجتماعية التى ألفها الصوماليون في تاريخهم المديد، وهو ما لم يحدث. بل ان كثيرين من النخب السياسة نفسها في ذلك الحين، ربما لم يكن لديها تصور صحيح في بنية الدولة المدنية الحديثة.

وكذلك كان شأن الادباء الصوماليين الذين يفترض أن يكونوا في طليعة النخبة المثقفة التي تشكل الوعي الصومالي الحديث، فانهم -للاسف- لم يجدوا صورة يقرّبون بها الدولة الى اذهان المجتمع غير صورة الناقة التى ترمز في الخيال العشائري الصومالي معاني الخصب والارتواء والنهب؛ فكانت نظرتهم الى الدولة نظرة الناقة التي تنهب ثم تحلب وتروّي العشيرة، فكانت خلاصة فلسفتهم في الهدف من الدولة ( خذ القعب واحلب مانديق)1. فمنذ ذلك الوقت اخذ كل واحد قعبه، واستحوذ على تفكيره كيف يتغلب على هذه الناقة، ويرتوي من لبنها وحيدا او مع عشيرته. في بادي الامر، تعاونت مجموعات ذات مصالح مشتركة ولكنها من عشائر  مختلفة في الاستئثار بمنافع الناقة، ثم تطور الامر الى ان تفكر كل عشيرة بوضع يدها على هذه الناقة والانفراد بخيراتها، ولكن الناقة كانت عليهم وبالا في النهاية كمثل ناقة صالح اخي ثمود، اذ لم يحسنوا حفظها ورعايتها، بل عقروها، فحلّت عليهم اللعنة، فأخذتهم الصيحة، فتفرقوا في الافاق شذر مذر، لا يعرف لهم وجهة، ولا يستقرون في وطن، وكتب الله عليهم الرحال والترحال، والتيه في الارض، والدوران في حلقة مفرغة، فبعد كل عشر او عشرين او ثلاثين سنة حين ظن الناس انهم قد اهتدوا الى طريق معبّد بعد ضلالهم الطويل في الفيافي المقفرة تراهم يعودون الى مكانهم الذي ارتحلوا عنه يسالون عن القبلة ويسترشدون الوجهة.

العلاقة بين الدولة والقبلية 

مرّت العلاقة بين الدولة والقبيلة في الصومال بمراحل مختلفة، وبأدوار متباينة قوة وضعفا. فبعد الاستقلال اتخذت الحكومات المدنية ( ١٩٦٠-١٩٦٩) العشائر كقاعدة شعبية لها، تستغلها في مصالحها كقوة اجتماعية، تكفل لها الوصول الى الحكم عن طريق الانتخابات الصورية، وصناديق الاقتراع التى كان فيها للتجمعات العشائرية  دور حاسم في فوزها، فهنا كانت الدولة هي المستفيدة من نفوذها، ثم تلقى فتاتا لاعيانها، وتتركهم في بؤسهم وفقرهم ومرضهم، حتى يحين موعد الانتخابات القادمة، فترسل لهم الفضلات من اكياس الرز، وتتخذهم حصانا يركبونه الى سدة الحكم. ثم جاء دور العسكر (١٩٦٩-١٩٩١) الذي أعلن ظاهرا في بدابة الامر انه يحارب القبلية، واجرى مراسيم صورية لدفنها. وبعد سنوات قليلة خرج القمقم من تحت الأنقاض اشد عنفا وأكثر شراسة، وقام النظام العسكري بقبلنة الدولة نفسها، واستعمل السياسة الاستعمارية (فرق تسد) لتقريب بعض العشائر والسماح لها بالمراضعة، وإبعاد بعضها الاخرى من الاقتراب من ضرع الناقة الحلوب، حتى ثارت العشائر التى ترى نفسها محرومة، وقررت سلب الناقة نفسها او قتلها اذا عجزت عن السلب، حتى لا ينتفع بها احد غيرهم.

ثم جاءت مرحلة التيه (١٩٩١-٢٠٠٠) ورفع شعار حرب الكل على الكلّ ( انا مع اخي على ابن عمي، ومع ابن عمي على الغريب) وتركت الناقة فيها هملا، لا راعي لها ولا حافط ولا ينتفع بها احد، حتى اطلّ علينا عهد دولة العشائر (٢٠٠٠- مستمرة) وكان العصر الذهبي للقبيلة، ولأول مرة وبعد الاستقلال شرعنت دولة القبيلة ، وصارت هي القاعدة الاساسية للنظام السياسي في البلاد علنا، واصبحت القبيلة هي التي تستغل الدولة، وتستخدمها في مصالحها الخاصة، على عكس ما كان عليه الحال في الدولتين المدنية والعسكرية، فلا صوت يعلو فوق صوت القبيلة، حتى انتهت المفاوضات الصومالية الاخيرة في الانتخابات الى فشل ذريع بسبب صراع النفوذ العشائري التقليدي القديم بين ابناء العمومة (ديني واحمد مدوبي من كبللح Kablalax, وفرماجو من Sade) على حكم ولاية جوبا لاند. ورأينا رؤساء سابقين مثل الشيخ شريف وحسن شيخ محمود جالسين باطمئنان في تجمع لقبيلتهم الهوية تنذر الدولة وتوعدها بالثبور والهلاك، اذا لم تصغ لمطالب ابنايها. تلك هي أزمة الدولة عندنا – ايها الأصدقاء – واذا لم نتحدث عن جوهر الداء، والعلة الاولى لكل العلل، فان اي حديث بعدها عن الانتخابات والدستور والبرلمان والحكومة يكون من باب التسلية والترفيه، او ذرّ الرماد في العيون، او على أفضل تقدير غشّ الشعب المسكين، وخداعهم بسراب يحسبه ماء، حتى اذا جاءه لم يجد شييا، ومن ينتظر من العصيات القبلية نظام دولة، كمن ينتظر الماء الزلال من سراب بقيعة.

1: القعب : القدح الكبير

عن عبد الواحد عبد الله شافعي

Avatar
كاتب صومالي من مواليد بورعكر حاصل على درجة الليسانس في الدراسات الإسلامية واللغة العربية من كلية الدعوة في ليبيا في عام ١٩٩٤. نال دبلوم ماجستير في اللغة العربية وآدابها من الكلية نفسها في عام ١٩٩٦. حصل على ماجستير في اللغويات وتعليم اللغات الأجنبية من جامعة لندن متروبولتان في بريطانيا في عام ٢٠١٦. يعمل في خدمة الجاليات المسلمة في بريطانيا. له مقالات وبحوث فكرية وسياسية منشورة في الصحف والمواقع العربية. يهتم بالثقافة وقضايا الفكر السياسي عامة والإسلامي خاصة.

تعليق واحد

  1. Avatar

    مقال ممتاز شكرا استاذ

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*