“أجمل من إلتقيتُ به في إفريقيا هو “نفسي” فإذا بي أكتشف إلى أي مدى يتعاظم عنادي أمام الإجبار، وتتباهى نفسي شموخاً بإصطحاب تمردي إلى كل مكان يجدد فيه الظلم نفسه فأسقطت “الحقيقة” كل شيء زائف يراه غيري ذو قيمة، فتصاغرت في عيني جميع المباهج وتضاءل في نفسي سباق الحياة وحدها الحقيقة من تعاظمت قدسيتها في نفسي وستبقى”، بتلك الكلمات الموجزة بدأت حديثي مع قناة إفريقيا العالمية عندما سألني المحاور حينها قائلاً: ما هي النقطة الفارقة التي ألقت بظلالها عمقاً على شخصكِ القادم من ذلك المجتمع المرفه إلى غياهب إفريقيا طوال عقد كامل لم تستسلمي فيه لعناء العيش في قارتنا ولم ترفعي الراية إلا أمام محراب الحقائق.
تزخر القارة الأفريقية بحقائق جمة لا تستطيع معظم وسائل الإعلام العالمية على تناولها بإسهاب ناهيك عن تلك الأقلام وأفواه أصحابها من التبحّر أو حتى الإشارة إليها ولعل ذلك يقودني للحديث حول أهم تلك الحقائق، فأثناء لقائي مع أحد أقطاب الإعلام الإفريقي “الدكتور سونغو” حول كتابي الذي حمل عنوان “العلاقات الخليجية الأفريقية رؤية مستقبلية للقرن 21” والذي أثار التساؤل عن أهم نقاط الخلاف والالتقاء بين الواقع الإفريقي والواقع العربي، وفي الحقيقة أرى بأن الواقعان يلتقيان في أربعة مواقع هي: كثرة القواعد العسكرية الأجنبية، كثرة المستشارين الغربيين، وتصاعد ملفات الفساد، وضبابية مستقبل العلاقات بين دوله، ولا أرى ثمة إختلاف “حقيقي” بين الواقعين، فالشعوب الأفريقية وإن كانت تعاني من تجذّر إشكالية “العرقية والاثنية” في مجتمعاتها إلا أنها أفضل حالاً من الشعوب العربية وإن كانت ليست بذات الحدة التي شاهدتها عياناً في إفريقيا والتي ساهمت إلى حد كبير في إحداث شرخ مجتمعي يحتاج للكثير حتى يلتئم، كما أن النخب الفكرية الأفريقية في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء تتطلع إلى ضرورة انقشاع تلك الضبابية بين مستقبل دولها.
وعليه؛ يجب أن ندرك حقيقة هامة مفادها أن رؤية تلك النخب تختلف عن رؤية النخب في دول إقليم الشمال من القارة الأفريقية ويعود ذلك إلى الوجدان الجمعي الذي أراه كما يراه غيري واضحاً ومتماسكاً في جنوب القارة أكثر من شمالها بدليل تنامي الموجات الشعبية لكسر ما أطلقت عليه تلك النخب “الاستقلال الشكلي” الذي تعاني منه منذ ستينات القرن الماضي حتى يومنا هذا والذي نجحت تلك النخب إلى حد ما في توضيح تبعاته على مقدرات وأحلام الشعوب، أما الجانب العربي فالعقل الجمعي لم يستطع حتى هذه اللحظة من وضع أبجدية “حقيقية” وموحدة لمستقبل العلاقات العربية العربية وإن اجتهد البعض في تبيان الإخفاقات ومحاولة رسم الطريق لتلافي المعوقات إلا أن تلك الجهود الفكرية للنخب العربية لم تؤتي ثمارها رغم كل الإمكانيات المتوفرة وهذا ما يُفسر حجم اللامبالاه وضعف التعاطي “الجوهري” مع الكثير من القضايا العربية المؤرقة لمستقبل تلك العلاقات.
ترتبط القارة الأفريقية مع العرب بروابط الدم والأرض؛ وخاصة بين منطقة القرن الأفريقي وشبة الجزيرة العربية؛ ولكن يجادل البعض بأن الواقعين مختلفان رغم المصير والمعاناة المشتركة بين الجانبين وقد تجلى هذا الواقع بحقائق ملموسة علي أرض الواقع منذ القدم؛ فمع بزوغ فجر الإسلام أوصى خير الانام صلى الله عليه وسلم الصحابة بالهجرة إلى الحبشة ” القرن الإفريقي حاليا ” لأن فيها ملكا لا يُظلم عنده أحد، وعليه يتحتم على الجانبين ضرورة التنسيق والتعاون في الجوانب كافة من أجل التكامل الاقتصادي والتجاري وتبادل الاستثمارات عن طريق تسليط الضوء على الفرص الاستثمارية المتاحة للشركات ورجال الأعمال في أسوق القارة الأفريقية الواعدة في المجالات المختلفة؛ لخلق آلاف من فرص العمل، والقضاء على الفقر المدقع وتحقيق التنمية المستدامة.
ويبقى السؤال هنا هل هناك من بيننا من لا يزال يؤمن بأن الواقعان “الإفريقي والعربي” لا يلتقيان؟!