إثيوبيا في مخاض عسير..!

إذا أطلق إثيوبيا فإنها لا تقع إلا على قومية الأمهرة في الوعي الجمعي للصوماليين، وربما للقوميات الأخرى في إثيوبيا. أمهرا وإثيوبيا كلمتان مترادفتان يدلان على شيء واحد، ويشيران إلى معنى واحد، وهو الهيمنة على شعوب منطقة القرن الأفريقي.
إثيوبيا قبل التوسع إلى مناطق الجنوب في القرن التاسع عشر كانت محصورة في مناطق في شمال إثيوبيا يسكنها قوميتا الأمهرا والتيغراي يتنافسان على السلطة، ويتداولان عليها حتى كانت الغلبة لقومية الأمهرا منذ نهاية القرن التاسع عشر؛ ولكن التيغراي تمكنوا من إقصائهم عن السلطة مرة أخرى في عام ١٩٩١. مملكة أكسوم العريقة التي امتدت ما قبل الميلاد إلى نهاية القرن التاسع الميلادي كانت تقع في مناطق التيغراي، وبعد سقوطها اتجهت المملكة شمالا إلى مناطق الأمهرا.
الدولة الإثيوبية الحديثة تأسست على القهر والتوسع والاحتلال، ويعتبر الإمبراطور الامهري منليك ( ١٨٤٤- ١٩١٣) مؤسس الدولة الإثيوبية الحديثة، إذ إنه قام على حملات توسعية في مناطق الجنوب لضم أراضي مناطق أورومو والعفر وسيدامو والصومال الغربي وغيرها من مناطق القوميات الأخرى إلى نفوذه في نهاية القرن التاسع عشر بمساعدة من الدول الأوربية التي دعمته لوجستيا بالمعلومات والخرائط، وماديا بالأسلحة الحديثة والذخائر حتى تمكن من إخضاع تلك المناطق بالقوة. وبذلك تكون إثيوبيا الدولة الأفريقية الوحيدة التي شاركت الأوربيين في استعمار إخوانهم الأفارقة من الصوماليين والأوروميين والعفر وغيرهم من القوميات الأخرى الذين عانوا الظلم والقهر والبطش على أيدي القومية الأمهرا من الإثيوبيين بدعم أوروبي غير محدود، كما أسلفنا ذكره.
ومنذ غزوات التوسع التي قام بها منليك على أراضى القوميات الأخرى أسست الإمبراطورية الإثيوبية الأمهرية دولة مركزية قوية حكمت على مدى قرن كامل بالحديد والنار، ولا تعترف أي حقوق للقوميات الأخرى بل وتعاملهم معاملة الشعوب المحتلة من قتل وسجن وإذلال وفرض اللغة الأمهرية عليهم كلغة رسمية وحيدة في البلاد تمهيدا لأَمهرة ثقافة المجتمع.
وفي عام ١٩٩١ خلف من بعدهم التيغراي، واخترعوا نظاما فيدراليا مؤسسا على القوميات ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، ظاهره قبول التنوع واحترام حقوق القوميات في إدارة نفسها وباطنه الهيمنة والتحكم في السلطة والثروة واستعمال الفيدرالية لتنويم الشعوب عن مطالبة حقوقها.
وفي التاريخ الإثيوبي القديم والحديث لم يكن للقوميات الأخرى أي نفوذ في داخل الصراع على السلطة بين قوميتي الأمهرا والتيغراي. إلا أن هناك إمبراطورا أوروميا واحدا ظهر عن طريق الصدفة على سلسلة ملوك الحبشة وهو ليج ياسو الأورومي حفيد الإمبراطور منليك. ولظهوره قصة طويلة نحاول إيجازها.
يروى أنه في أثناء الحملة التوسعية التي كان يقوم بها منليك على أراضي الأورومو تمكن من هزيمة أحد سلاطينها ووقع في أسره، واسم السلطان محمد على، ثم خير منليك السلطان ببن القتل أو التنصر؛ فاختار التنصر وحسن تنصره – إن صح التعبير – فتسمى بميخائيل، فزوَّجه منليك ابنته، وولدت له “ليجو” ولم يكن لمنليك ابن غير حفيده ليجو ابن محمد على فأوصى له العهد، وبعد موت منليك عام ١٩١٣ نصب ليجو إمبراطورا على الحبشة، وأظهر ليجو ياسو تعاطفا كبيرا لقوميات الأورومو والعفر والصوماليين، وسمح لهم ببناء المساجد وحرية العبادة مما أدخل الشكوك في نفوس الدولة العميقة، (الكنيسة وطبقة النبلاء) فعزلته الكنيسة وتراجعت عن تنصيبه عام ١٩١٦، ثم قبض عليه، ووضع في السجن حتى مات في ظروف مشبوهة عام ١٩٣٦.
وهناك روايات تقول إن أسرة السلطان محمد على كانت تظهر التنصر خوفا؛ ولكنها كانت محتفظة بدينها وتمارس شعائر الإسلام خفية، وبعد تنصيب ليج ملكا أعلن إسلامه وأظهر هذا التعاطف القوي للمسلمين، وبدأ علاقات قوية مع الدولة العثمانية حتى أن بعضهم يذكر أنه غير العلم الإثيوبي، وكتب عبارة الشهادة عليه، ولكنني شخصيا استبعد صحة هذه الرواية. ليجو تربى في القصر الملكي، ولا بد أن يعرف مع صغر سنه موازين القوى في مملكته، ولا يمكن أن يقوم بمثل هذه التصرفات إلا إذا قصد الانتحار.
قد يكون صحيحا أنه حاول رفع الظلم عن المسلمين الإثيوبيين المضطهدين، وسمح لهم بحرية العبادة، ولكنني استبعد حكاية إعلانه الإسلام، وتغيير العلم، وما إلى ذلك مما يبدو أنها قصص مختلقة، ربما من الدولة العميقة لإطاحة الملك الدخيل على السلالة المختارة، وإعادة المملكة إلى مكانها الطبيعي بين سليل الأسرة السليمانية الأمهرية، وهذا ما كان ، وعندما جاء هيلا سلاسي كتب في الدستور الإثيوبي صراحة أن العرش الإثيوبي محصور في نسل الأسرة السليمانية.
صعود آبي أحمد علي في سدة الحكم يشبه من نواح كثيرة باعتلاء ليجو ياسو الملك، فكلاهما من قومية الأورومو خارج الأسرة السليمانية التي أعطت لنفسها الحق الإلهي في الحكم، وتحوم شكوك حول ديانتهم، وكلاهما دعا إلى رفع الضيم عن القوميات المضطهدة، وإعطاء حقوق متساوية لجميع القوميات. وإذا كان ليجو قد تربي في القصر الملكي وعلى حضن جده منليك، فإن آبي أحمد قد تربى في بيت عائلة التيغراي الحاكمة، وعلى حضن مليس زيناوي ورعايته وعنايته، فقد ترقى المناصب على عجل، ولولا رضاهم عنه واطمئنانهم إليه لما تمكن بهذه السرعة. ويبدو أن آبي أحمد بعد وصوله للحكم قد قلب لهم ظهر المجن، وسدد لهم ضربات قوية خطيرة ومباشرة على الوجه والرأس، ضربات لم تمتهم، ولكنها جعلتهم في حالة إغماء يصعب الإفاقة منها على المدى القصير، وأفقدتهم الكثير من مراكز قوتهم.
لا ندري ما إذا كان مصير آبي أحمد سينتهي إلي مثل مصير ابن عمه ليجو ياسو، ولكن كل الدلائل تشير إلى أن الدولة العميقة في إثيوبيا ستستجمع قوتها بعد الضربات الأولى التي تلقتها، فهي لا تتصور أن تخسر هيمنتها ومغانمها من السلطة والثروة بهذه السهولة، ولن تترك الرجل يستكمل إصلاحاته.
ومن الواضح أن آبي أحمد ليس ليجو ياسو، وان أورومو في بدايات القرن الواحد والعشرين ليست مثل الأورمو في بدايات القرن العشرين، وأن إثيوبيا اليوم ليست مثل إثيوبيا أمس. ويظهر واضحا أن آبي أحمد كسب الجولة الأولى من المعركة، ويعد نفسه لجولات أخرى أشد وأقوى، وقد تعرض في شهر يونيو الماضي لمحاولة اغتيال من عناصر يشتبه بأنها القوى المتضررة من التغيير الذي يقوده الرجل. قومية الأمهرة أيدت الأوروميين في احتجاجاتهم ضد التيغراي؛ وذلك ليس حبا لهم بل على طريقة عدو عدوي صديقي فهم يعتقدون أن التيغراي خصمهم اللدود، وأنهم العقبة الأساسية لطموحاتهم السياسية، وإذا خرجوا من الساحة فإنهم يستطيعون استعادة ملكهم من الأرومو- على الأقل هذا ما يحدثون به أنفسهم، ولكن يبدو أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، وأن الحكم اليوم أبعد مما كان بالأمس، وتحقيق طموح الهيمنة يضيع منهم شيئا فشيئا؛ لأن أوراق اللعبة قد تغيرت.
رسالة أخيرة موجهة إلى الأوروميين، ينبغي عليهم ألا يتصرفوا على نفسية المضطهَد، وألا يفكروا في الانتقام، ولا يروا تولي آبي أحمد لرئاسة الوزراء فرصة للتعويض عما لحق بهم من التهميش والإقصاء. صحيح أن الأوروميين أكبر قومية في إثيوبيا؛ ولكننا نريد أن نتجاوز عقلية سيطرة قومية على أخرى، نريد أن يكون الناس مواطنين متساوين في الحقوق، ويربطهم بالدولة عهد مدني مؤسس على حقوق مدنية، قد يكون حزبا سياسيا أقلية، وقد يكون أكثرية، ولكن ليس في النظام الديمقراطي المدني قومية أكثرية وقومية أقلية، وإنما هناك مواطنون من قوميات مختلفة ينتمون إلى أحزاب سياسية مختلفة على أساس الرؤى والبرامج المشتركة لا على أساس الانتماء العرقي أو القومي.
خياران:
إثيوبيا الآن في مفترق طرق وأمامها خياران : الخيار الأول هو قبول الإصلاح السياسي، وبدء حوار ومصالحة حقيقية بين القوميات الإثيوبية للدخول في عقد اجتماعي جديد يدشن لمرحلة جديدة قائمة على أسس من المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات ومشاركة حقيقية في السلطة والثروة بين القوميات، وليس لقومية فضل على قومية أخرى، وليس لها وحدها الحق في احتكار السلطة والثروة.
والخيار الثاني هو محاولة عرقلة الإصلاح السياسي ونهج سياسات الهيمنة والقهر والبطش التي أثبتت فشلها في الماضي، وانتهت إلى طريق مسدود. لقد ولى عصر الهيمنة والقهر، وبدأ عهد جديد من المشاركة والحوار، ومن يفكر في العودة إلى عصور الظلام والاستئثار بالسلطة والثروة كمن يعيش في أحلام يقظة، وليس هناك بديل للحوار والمشاركة إلا الفوضى والاحتراب الداخلي والتفكك.