إنما العاجز من لا يشاور..!
في مقالي السابق تحدثت عن أهمية الديمقراطية في السياسة وأهمية مشاركة الحكام الناس في إدارة شئونهم وألا يعاملوهم معاملة القطيع بل كمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات. والحاكم ليس إلا فردا منهم اختاروه لرعاية مصالحهم العامة، يراقبونه ويعينونه إذا أصاب ويصوّبونه إذا اخطأ. فالأمة هي صاحبة السلطة العليا في تعيين الحاكم وفِي مراقبته. وعلى الحاكم طاعة المحكومين في تنفيذ إرادتهم ومصالحهم. وليس على المحكومين – على العكس مما يتوهمه كثير من الناس طاعة الحاكم إلا في حدود تنفيذ مصالحهم العامة.
نتحدث اليوم عن أهمية الشورى ليس في السياسة فحسب بل في سائر شؤون حياتنا. نريد أن تسود الشورى لدى الآباء في البيوت والمدرسين في المدارس أو الجامعة والإمام أو الخطيب في المسجد والعلماء في حلقاتهم.
لقد ولي العهد الذي كان الأب يستبد الرأي في شؤون بيته يصول ويجول ويأمر فيطاع وينهي فيرتدع. يدخل البيت مغيظا محنقا يلطم هذا ويركل هذه، ويتوعد ذا وينذر ذاك فيتحول البيت إلى سجن كبير يسوده الوجوم والسكون. وإذا سمع حركة من لهو أو لعب حملق وزمجر وأرعد وأزبد فلا الأطفال قادرون على للعب ولا الزوجة قادرة على تحريك آنية من أواني البيت.
فالبيت شراكة قائمة على التراضي في العقد والشورى في الإدارة. ينبغي أن يكون الأب ديمقراطيا يشارك زوجته وأولاده في تدبير شؤون البيت. فالرجل هو المسئول في البيت ولكنها مسؤولية تشريف منضبطة بالشورى والحوار.
وينبغي على المدرس في المدرسة أو الجامعة أن يضع العصا عن عاتقه ويحمل المشعل الذي يضيء الطريق ويحاور طلابه ويشجعهم على النقاش والنقد. فلقد ولى العصر الذي كان فيه الأستاذ هو المحور في العملية التعليمية، يعد الدرس ثم يلقنه للطلبة وينقبض عن أي محاولة من الطلبة لإبداء رغبة في النقاش أو حتى مجرد توجيه سؤال للأستاذ. ففي النظريات التعليمية الحديثة يكون الطالب مركز العملية التعليمية مشاركة ونقاشا ونقدا ويكون دور الأستاذ دورا توجيهيا وإرشاديا. ومن الأهمية بمكان أن تكون مدارسنا وجامعاتنا ساحات لتدريب أبنائنا وبناتنا على النقاش الحر والنقد وتقبل الرأي الآخر واحترامه.
وكذلك الإمام في المسجد يستحسن أن يحوز رضا المأمومين عنه ويشاورهم في الطريقة المثلى لنجاح مهمته في الإمامة، فلا يطيل عليهم الصلاة أو يقصرها دون رضاهم ولا يتقدم أحد على الإمامة في المسجد دون اختيار المأمومين ورضاهم. وقد ورد في الأثر أن الله لا يقبل صلاة من أمّ قوما وهم له كارهون. وما ينطبق على الإمام ينطبق على الخطيب يشاور الناس ويسألهم عن الموضوعات التي يرونها في حاجة إلى البحث والخطابة، فلا يستبد برأيه ويلقى على الناس خطبا معدة من قرون مضت أو أعدها هو بنفسه ولكنها منبتة ولا تمت إي صلة بواقعهم.
ويحسن للعلماء أيضا أن يحاوروا الناس ويشاركوهم في فهمهم للنصوص الدينية. ولقد انتهى العصر الذي كان الناس ينقسمون فيه إلى علماء دين يفهمون النص وحدهم وعوام يستقبلونه دون سؤال ونقاش. فليس لدينا اليوم عوام على معناها التقليدي وإنما لدينا علماء متخصصون في مجالات مختلفة من العلوم وليس الدين إلا مجالا واحدا من تلك المجالات. فالعامي التقليدي اليوم عالم متخصص في جزئية من جزيئات العلوم، والعالم الديني يحتاج إلى تلك العلوم في قراءته للنص الديني وفهمه فهمًا مستوعبا. وحاجة العالم الديني إلى العلوم الأخرى تتأكد في مرحلة ما بعد الفهم النص، وهي مرحلة فهم الواقع مما يتطلب توظيف أدوات وعلوم أخرى ( اجتماعية وإنسانية، وما إلى ذلك) قد تكون خارج نطاق تخصصه. وهنا يكون العالم الديني مضطرا للتشاور مع أصحاب التخصص في تلك المجالات لإلقاء الأضواء الكاشفة في الزوايا الخفية للموضوع قيد البحث. وإذا انتقل الأمر إلى مرحلة التطبيق تتسع المشاركة وتشمل أولي الأمر ومن بيدهم السلطة. وهكذا دواليك.
والخلاصة، إن عهد الاستبداد قد ولى سواء كان ذلك في السياسة أو في الأسرة أو في المدروسة أو في الدين أو في غير ذاك من شؤون الحياة. وإذا كان ابن ربيعة قد قال قديما “إنما العاجز من لا يستبد” فإننا نقول إنما العاجز من لا يشاور…!