الاقتصادالسياسةالصومالتحليلاتمقالاتمقالات الرأيوجهات نظر

اقتصاد بلا سيادة: تداعيات غياب العملة الوطنية في الصومال

المقدمة:

الصومال، مثل العديد من الدول التي عانت من الحروب الأهلية والتحديات السياسية، يجد نفسه في معركة طويلة لاستعادة سيادته الاقتصادية. من أبرز مظاهر هذا التحدي هو طبع نسخ جديدة من العملة الوطنية، التي تمثل أكثر من مجرد وسيلة للتبادل التجاري. العملة الوطنية تعد رمزًا للسيادة الوطنية، وتجسد قدرة الدولة على التحكم في اقتصادها وتوجيهه بما يخدم مصالح شعبها.

ان عدم التعامل بالشلن الصومالي يعزى إلى جملة عوامل أهمهما اهتراء العملة من الناحية الفيزيائية وعجز الحكومة الفيدرالية في طبع عملة جديدة تحل محل العملة القديمة وكذلك محدودية قدرة البنك المركزي في ضبط أسعار صرف العملات الأجنبية مما ادى لعزوف المواطنين عن التعامل في العملة الوطنية في صفقاتهم ومعاملاتهم التجارية؛ ومع ذلك هناك مؤشرات جيدة لتوجه الحكومة الصومالية لطبع عملة وطنية جديدة بعد اعفاء الديون عبر مبادرة البلدان الأكثر مديونية (HIPECS) .

تأثير انهيار الدولة على النظام النقدي

إن فقد المواطنين الثقة في التعامل بالعملة الوطنية في معاملاتهم التجارية ينعكس بشكل مباشر على استقرار الاقتصاد الوطني، حيث يعتمد البلد بشكل كبير على العملات الأجنبية، خصوصًا الدولار الأمريكي، في المعاملات اليومية. هذا الوضع يضعف من قدرة الحكومة على تنفيذ سياسات نقدية مستقلة ويسهم في تقلبات الأسعار والتضخم. إضافة إلى ذلك، يعزز هذا الواقع عزلة الاقتصاد الصومالي عن النظام المالي العالمي، مما يعوق عملية التنمية الاقتصادية المستدامة، إن استعادة العملة الوطنية في الصومال ليست مجرد مسألة اقتصادية، بل هي جزء من مشروع أكبر لإعادة بناء الدولة وتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي ومنذ بداية الحرب الأهلية في الصومال في أوائل التسعينيات، عانى النظام الاقتصادي في البلاد من تدمير شامل، شمل انهيار الدولة والمؤسسات المالية، بما في ذلك البنك المركزي. قبل هذا الانهيار، كان للصومال نظام نقدي شبه مستقر يعتمد على العملة الوطنية “الشلن الصومالي” التي كانت تُدار من خلال البنك المركزي. كانت الدولة قادرة على استخدام سياساتها النقدية لتحفيز النمو الاقتصادي وضبط التضخم، وكانت الشلن الصومالي تُستخدم بشكل واسع في المعاملات اليومية داخليًا ودوليًا.

لكن مع تفكك الدولة في بداية التسعينيات، ساءت الأوضاع الاقتصادية بشكل كبير، وأصبح النظام النقدي في حالة من الفوضى. فقد توقف البنك المركزي عن العمل، وأصبحت الحكومات التي تعاقبت على السلطة الهشة غير قادرة على طباعة العملة أو تنظيم أسواق الصرف. نتيجة لذلك، غاب التنظيم المالي، وانهارت المؤسسات الاقتصادية التي كانت تدير الاقتصاد الوطني، مما أدى إلى التضخم المفرط وتدهور قيمة الشلن الصومالي وفي ظل غياب العملة الوطنية، ظهرت العملات الأجنبية كبديل رئيسي في الأسواق المحلية، وتحديدًا الدولار الأمريكي، الذي أصبح العملة المهيمنة في معظم المعاملات اليومية. هذا الاعتماد على الدولار أدى إلى تداعيات سلبية على الاقتصاد المحلي، حيث أصبح من الصعب على الحكومة الصومالية التأثير في معدل التضخم أو الحفاظ على استقرار الأسعار. كما أن التعامل بالعملات الأجنبية قلل من السيادة الاقتصادية للصومال، وأدى إلى تزايد الاعتماد على التحويلات المالية من الخارج، التي أصبحت أحد المصادر الرئيسية للدخل بالنسبة للعديد من الأسر الصومالية.

أدى انهيار النظام النقدي إلى تفشي السوق السوداء وارتفاع قيمة الدولار مقابل الشلن الصومالي في تلك الفترة، مما جعل السلع الأساسية أكثر تكلفة، وزاد من معاناة الشعب. كما أضرت الأزمة الاقتصادية بقطاع التجارة والصناعة، حيث كانت معظم الشركات تتعامل بعملات أجنبية أو تعتمد على واردات من الخارج، ما جعل الاقتصاد الوطني يعاني من هشاشة شديدة تجاه التقلبات العالمية إضافة إلى ذلك، ساهم غياب استقرار العملة في عزلة الصومال عن النظام المالي الدولي، مما أثر على قدرته على جذب الاستثمارات الأجنبية أو تطوير البنية التحتية المالية. ظل الصومال لعقود بدون عملة وطنية مستقرة، وهو ما زال يعاني من تداعيات هذا الانهيار على اقتصاده في الوقت الراهن.

تاثيرة الدولار على الاقتصاد الوطني:

 الدولرة هي ظاهرة اقتصادية تحدث عندما تصبح العملة الأجنبية، وخصوصًا الدولار الأمريكي، هي العملة المهيمنة في المعاملات الاقتصادية داخل الدولة، بدلًا من العملة الوطنية. في حالة الصومال، أصبحت الدولرة أحد أهم ملامح الاقتصاد بعد انهيار الدولة في التسعينيات وعدم القدرة على إدارة النظام النقدي الوطني بشكل فعال. في ظل غياب العملة الوطنية المستقرة، أصبح الدولار الأمريكي العملة الرئيسية التي يُستخدم في المعاملات اليومية، من التجارة إلى الدفع للخدمات، وهو ما أدى إلى هيمنة الدولار على مختلف القطاعات الاقتصادية في البلاد.تأثير الدولرة على الاقتصاد الصومالي كان متعدد الأبعاد، وكان له تداعيات سلبية على استقرار الاقتصاد الوطني.

أولاً، من أبرز تأثيرات الدولرة هو فقدان السيادة النقدية، حيث أصبح الاقتصاد الصومالي حساسًا بشكل مفرط للتقلبات في سعر صرف الدولار الأمريكي. نظرًا لأن معظم المعاملات التجارية في الصومال تتم بالدولار، فإن أي تقلب في قيمته يؤثر مباشرة على أسعار السلع والخدمات المحلية، ما يؤدي إلى ارتفاع التضخموتفاوت الأسعار بين الفئات المختلفة من المجتمع.

ثانيًا، انعكست الدولرة على قدرة الحكومة الصومالية على تنفيذ السياسات النقدية المستقلة. في ظل عدم وجود عملة وطنية مستقرة، لم تتمكن السلطات من استخدام أدوات السياسة النقدية التقليدية مثل تحديد سعر الفائدة أو طباعة النقود للتحكم في الاقتصاد. بالتالي، فإن الصومال كان يفتقر إلى الوسائل اللازمة للتعامل مع الأزمات الاقتصادية، مثل التضخم المرتفع أو الركود الاقتصادي، مما جعل الاقتصاد أكثر عرضة للصدمات الخارجية.

إضافة إلى ذلك، فإن هيمنة الدولار على الاقتصاد الصومالي خلقت فجوة كبيرة بين الطبقات الغنية والفقيرة. فالنخبة التي لديها القدرة على الوصول إلى الدولار الأمريكي، سواء من خلال التحويلات المالية أو من خلال التجارة الدولية، كانت قادرة على تأمين احتياجاتها بأسعار معقولة. بينما واجهت الفئات الأقل قدرة على الوصول إلى الدولار تحديات كبيرة في تلبية احتياجاتها الأساسية، خاصة في ظل تقلبات أسعار الصرف.

من ناحية أخرى، فإن الدولرة قد تكون لها بعض الفوائد قصيرة المدى، مثل استقرار الأسعار في مواجهة تقلبات العملة الوطنية، وخاصة في حالة فقدان الثقة في النظام النقدي المحلي. لكن هذه الفوائد سرعان ما تتبدد على المدى الطويل، حيث تصبح الدولة تحت رحمة السياسات النقدية للدول الأجنبية، ما يعرقل النمو الاقتصادي المستدام ويضعف من قدرة البلاد على تحقيق الاستقلال المالي. وفي الواقع إن هيمنة الدولار على الاقتصاد الصومالي تمثل تحديًا كبيرًا للسيادة الاقتصادية. فبينما قد توفر الدولرة بعض الاستقرار المؤقت، إلا أنها في النهاية تعيق قدرة الصومال على بناء اقتصاد مستقل ومتين.

التحديات الاقتصادية:

تعد التحديات الاقتصادية في الصومال من أبرز القضايا التي تعرقل النمو المستدام والاستقرار المالي. من بين هذه التحديات، يأتي التضخم وغياب الاستقرار النقدي كأكبر العوامل المؤثرة في الوضع الاقتصادي الحالي. منذ انهيار النظام المصرفي في التسعينيات، أصبح الصومال يعاني من غياب العملة الوطنية المستقرة، مما جعل الاقتصاد المحلي عرضة للتقلبات الاقتصادية الخارجية. يعتمد الاقتصاد بشكل كبير على الواردات التي تُستورد بالدولار الأمريكي، وهو ما يجعل البلد عرضة لارتفاع أسعار السلع الأساسية عندما يتقلب سعر الدولار في الأسواق العالمية. نتيجة لهذا، أصبح التضخم مرتفعًا بشكل مستمر، ما يزيد من تكلفة المعيشة بالنسبة للمواطنين، ويشكل تحديًا كبيرًا لشرائح واسعة من الشعب، خاصة في ظل محدودية الدخل.

من جهة أخرى، يعاني الصومال من غياب الاستقرار النقدي بسبب عدم قدرة الحكومةعلى إصدار عملة وطنية مستقرة أو تنفيذ سياسات نقدية فعالة. مع غياب البنك المركزي الفاعل، لا تستطيع الحكومة التأثير على العرض النقدي أو مراقبة الأسعار بشكل مباشر، مما يعمق من التقلبات في سعر الصرف. هذا الوضع يخلق حالة من عدم اليقين في السوق، حيث يتوقع المواطنون والمستثمرون تقلبات كبيرة في قيمة العملات. علاوة على ذلك، أدى غياب الاستقرار النقدي إلى تفشي السوق السوداء، التي يتم فيها تداول الدولار بأسعار غير رسمية، ما يزيد من صعوبة تحديد الأسعار بدقة ويزيد من غلاء السلع.

التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية لهذه التحديات تتجاوز حدود الاقتصاد الكلي. فالتضخم المستمر وارتفاع الأسعار يجعل من الصعب على الطبقات الفقيرة تلبية احتياجاتهم الأساسية، مما يعزز من الفقر ويزيد من معدلات البطالة. كما أن غياب استقرار العملة يعيق قدرة الأسر على التخطيط المالي أو توفير احتياجاتهم المستقبلية. في ظل هذه الظروف، يصبح جذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية أمرًا صعبًا، ويظل الاقتصاد الصومالي في حلقة مفرغة من الركود وبناءً على ذلك، يبقى من الضروري أن يتخذ الصومال خطوات جادة نحو استعادة سيطرته على سياساته النقدية وإصلاح النظام المالي. إصلاحات شاملة في هذا المجال قد تساهم في استعادة الثقة في الاقتصاد الوطني وتساعد على استقرار الأسعار، مما يمهد الطريق لنمو اقتصادي مستدام وتحسين الظروف المعيشية للمواطنين.

الحلول المستقبلية:

يواجه الصومال تحديات اقتصادية كبيرة، أبرزها غياب عملة وطنية مستقرة، مما يفاقم من حالة عدم الاستقرار المالي ويعيق جهود التنمية. لتحقيق الاستقرار المالي والنقدي، يحتاج الصومال إلى إصلاحات جذرية وسياسات شاملة تتطلب تضافر الجهود من الحكومة والمؤسسات المعنية.

الخطوة الأولى في هذا الإطار هي تفعيل دور البنك المركزي ليقوم بوظيفته الأساسية في إدارة السياسات النقدية وضبط الاقتصاد. ينبغي للبنك المركزي إصدار عملة وطنية جديدة تتمتع بثقة المواطنين وتكون قابلة للاستخدام الآمن في المعاملات اليومية. لتحقيق ذلك، يجب أن يعمل البنك على ضبط المعروض النقدي، الحد من التضخم، وضمان استقرار سعر الصرف، إلى جانب تعزيز استقلاليته عن التأثيرات السياسية التي قد تعيق دوره. ولضمان نجاح العملة الوطنية، من الضروري اتخاذ إجراءات تعزز ثقة المجتمع بها، مثل مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية في إدارة الاقتصاد. يجب أن تصاحب هذه الجهود حملة توعوية تستهدف تشجيع الأفراد والشركات على استخدام العملة الوطنية في معاملاتهم، مما يسهم في تعزيز مكانتها في السوق المحلي.

في موازاة ذلك، يجب العمل على تحسين بيئة الأعمال لجذب الاستثمارات المحلية والدولية، حيث يمكن تحقيق ذلك من خلال تبسيط الإجراءات الجمركية والضريبية، وتقديم حوافز للمستثمرين في قطاعات حيوية مثل الزراعة، الصناعة، والتكنولوجيا. كما يعد تطوير البنية التحتية المالية أمرًا ضروريًا لتسهيل العمليات المصرفية، وتوفير خدمات تمويل وإقراض ميسرة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة.

التعاون مع المؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، يعد عنصرًا أساسيًا لدعم هذه الجهود. يمكن لهذا التعاون أن يوفر للصومال الدعم الفني والمالي اللازم لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة وتحسين البنية التحتية المالية.إلى جانب ذلك، يجب أن تكون مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية من أولويات الحكومة، إذ يعد الفساد أحد أبرز العوائق أمام التنمية الاقتصادية. يمكن تحقيق ذلك من خلال وضع آليات رقابية صارمة وإجراءات واضحة لإدارة الأموال العامة، بما يعزز الثقة بين الحكومة والمواطنين والمجتمع الدولي.

على المدى الطويل، يتطلب تحقيق الاستقرار الاقتصادي في الصومال وضع سياسات مالية مستدامة تركز على تحقيق التوازن بين الدين العام والنمو الاقتصادي، وزيادة الاحتياطيات النقدية الوطنية لتقليل الاعتماد على العملات الأجنبية. كما أن دعم القطاعات الإنتاجية سيعزز الاكتفاء الذاتي ويخلق فرصًا للتنمية المستدامة.

في الختام، فإن تجاوز التحديات الاقتصادية يتطلب رؤية استراتيجية متكاملة وجهودًا موحدة بين الأطراف المحلية والدولية. استعادة العملة الوطنية وبناء نظام نقدي مستدام هما مفتاح تحقيق الاستقرار المالي والنمو الاقتصادي الذي يطمح إليه الصومال على المدى الطويل.

عبد الله الفاتح

كاتب وصحفي جيبوتي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى