السياسةالقرن الأفريفيبحوث ودراساتتحليلاتمقالاتمقالات الرأيوجهات نظر

الأدبيات السياسية في القرن الإفريقي ونظرية العقد الاجتماعي

أداة شرعية أم دعوة للتغيير

مقدمة

لا يزال كتاب “العقد الاجتماعي” للفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو يشكل مصدر إلهام بارز في الأدبيات السياسية للقرن الإفريقي، سواء بالنسبة للأنظمة الحاكمة التي تسعى لاستخدام مفاهيمه لإضفاء الشرعية على سياساتها، أو بالنسبة لقوى المعارضة التي تستند إليه للمطالبة بالتحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة؛ فعلى سبيل المثال، تنص المادة الأولى من الدستور الجيبوتي على “أن الشعب هو مصدر السلطة، وهو الذي يمارس السيادة سواء بشكل مباشر أو عبر ممثليه المنتخبين بحرية” كما يكرس الدستور مبدأ “حكم الشعب، للشعب، ومن أجل الشعب”، وهو ذات الشعار الذي رفعه الرئيس إسماعيل عمر جيله خلال حملته الانتخابية الأولى عام 1999، مما يعكس تأثّره بمفاهيم السيادة الشعبية التي طرحها روسو، حيث تُعتبر شرعية الحكم متجذرة في إرادة الشعب.

وفي إثيوبيا يتجلى هذا المفهوم في المادة الثامنة من الدستور الفيدرالي التي تنص على أن “الشعوب والقوميات الإثيوبية هي مصدر جميع السلطات“. مما يعزز مبدأ أن السلطة لا يستمد من مشروعيتها إلا من الإرادة الشعبية الحرة، يتجاوز هذا النص الإقرار الشكلي بمفهوم سيادة الشعب ليؤكد حقوقا سياسيا محوريا مثل الحق في تقرير المصير والمشاركة السياسية، مما يعكس التزامًا نظريًا بالديمقراطية الشعبية.

أما في الصومال، فإن الدستور الفيدرالي يعزز ذات المبدأ في المادة الأولى التي تنص على أن “الشعب هو مصدر السلطة في جمهورية الصومال الفيدرالية. وأن جميع السلطات، سواء كانت تشريعية أو تنفيذية أو قضائية، مستمدة من إرادة الشعب وموافقته. ورغم أن البيئة السياسية في الصومال تتسم بتحديات معقدة من النزاعات الداخلية وضعف المؤسسات، فإن هذا الإطار الدستوري يظلّ من الناحية النظرية أرضية صلبة يمكن البناء عليها لإرساء حكم ديمقراطي حقيقي.

وفي سياق الحراك السياسي، أعلن ائتلاف المعارضة الجيبوتية (BSN) في مايو الماضي عن برنامج سياسي يعد الأول من نوعه، حيث استلهم العديد من مبادئ “العقد الاجتماعي“. وهو ما يعكس التأثير المستمر والعميق لهذا العمل الفلسفي على مجريات الحراك السياسي في المنطقة.

العقد الاجتماعي: الشرعية السياسية وإرادة الشعب

ينظر إلى “العقد الاجتماعي” كمرجع فكري بالغ الأهمية وذلك باعتباره من أعظم الأعمال الفكرية التي أعادت صياغة مفهوم السلطة والشرعية السياسية، واضعةً أسسًا جديدة لمبادئ الديمقراطية الحديثة.  فقد نُشر هذا الكتاب عام 1762 في زمنٍ كانت فيه الملكية المطلقة تهيمن على أوروبا، فجاء روسو ليقدّم رؤية فلسفية تقوم على العقد الاجتماعي، حيث يوافق الأفراد، بوعيٍ وإرادة حرة، على التخلي عن بعض حقوقهم الطبيعية لصالح مجتمع منظم، يضمن لهم الحرية والمساواة تحت قوانين تعكس الإرادة العامة.

لكن روسو لم يكن مجرد ناقدٍ للحكم الاستبدادي، بل كان مفكرًا طموحًا سعى إلى إعادة تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكوم، مُقترحًا نموذجًا سياسيًا يستند إلى المشاركة المباشرة للمواطنين في صنع القرار. وبالرغم من أن أفكاره أثارت جدلًا واسعًا، إلا أنها أصبحت حجر الأساس في فكر وأدبيات الحركات الثورية، وعلى رأسها الثورة الفرنسية، وما زال تأثيرها حاضرًا في النظريات السياسية الحديثة حول الشرعية السياسية، المواطنة، وحقوق الإنسان ويسعى روسو في كتابه، للإجابة على معضلة سياسية وفلسفية كبرى: كيف يمكن مواجهة النظم الاستبدادية التي تستمد شرعيتها من الحق الإلهي أو الوراثة، إذ يقدم تصورًا جديدًا للسلطة، قائمًا على فكرة أن المشروعية السياسية لا تنبع من قوة الحاكم، بل من الإرادة العامة للشعب، التي تمثل المصلحة المشتركة لجميع المواطنين.

طبيعة الإنسان والمجتمع:

يرى روسو أن الإنسان يولد حرًا بطبيعته، لكنه سرعان ما يجد نفسه مكبلًا بقيود المجتمع غير أن الحل لا يكمن في رفض هذه القيود، بل في إعادة تشكيلها عبر عقد اجتماعي عادل، يوافق فيه الأفراد طواعيةً على التنازل عن بعض حقوقهم الطبيعية لصالح المجموع، مقابل ضمان الحماية والمساواة في ظل قوانين تُصاغ لتعبر عن الإرادة العامة وبهذا، لا يكون الفرد خاضعًا لحكم فردي أو طبقة متسلطة، بل جزءًا من كيان سياسي يعكس تطلعاته وحقوقه، في توازن مثالي بين الحرية الفردية والمصلحة الجماعية، وهو الأساس الذي قامت عليه الديمقراطيات الحديثة.

في قلب فلسفة روسو السياسية يكمن التمييز الجوهري بين الإرادة العامة والإرادة الخاصة، وهو التمييز الذي يشكل الأساس لأي نظام سياسي عادل ومستقر. ووفقًا لروسو، فإن التحدي الأساسي لأي نظام سياسي ديمقراطي يكمن في ضمان أن تتغلب الإرادة العامة على النزعات الفردية والفئوية، والقبلية، بحيث لا يُستخدم الحكم لتحقيق مكاسب خاصة على حساب الصالح العام وهنا يرى روسو، أنه عندما تسود الإرادة العامة، تتحقق الحرية الحقيقية، لأن القوانين حينها لا تُفرض من قبل قوى خارجية أو نخب ضيقة، بل تصدر عن إرادة المجتمع بأسره. وعلى هذا الأساس، فإن الخضوع للقوانين العادلة التي تعبر عن الإرادة العامة ليس استعبادًا، بل هو الشكل الأسمى للحرية، حيث يصبح كل فرد، وهو يطيع القوانين، في الوقت ذاته مُشرعًا لها، مشاركًا في صياغة قواعد مجتمعه وفقًا لقيم العدالة والمساواة.

الثقافة والتربية.. مفتاح الديمقراطية الحقيقية:

يرى روسو أن بناء مجتمع عادل ومستقر لا يكون بمجرد وضع القوانين، بل يبدأ بتشكيل وعي الأفراد وتأهيلهم ليكونوا مواطنين فاعلين في تحقيق الإرادة العامة. فالمجتمع الديمقراطي لا يمكن أن يُدار بأفراد يجهلون حقوقهم وواجباتهم، بل يحتاج إلى عقول متنورة قادرة على تجاوز المصالح الشخصية الضيقة والتفكير في الصالح العام ومن هنا، تصبح التربية الجيدة حجر الأساس لأي نظام سياسي يسعى للعدالة والمساواة. فهي ليست مجرد وسيلة لنقل المعرفة، بل عملية غرس لقيم الحرية، المسؤولية، والمشاركة. فكلما كان أفراد المجتمع أكثر وعيًا، أصبحوا أقدر على ممارسة حقوقهم السياسية والدفاع عن إرادتهم الجماعية. وبهذا، يرى روسو أن الجهل أخطر أعداء الديمقراطية، إذ يفتح الباب أمام التلاعب والاستبداد، بينما المعرفة والوعي هما الحصن الحقيقي الذي يحمي المجتمع من الفساد والانقسام.

وبهذا لم يكن كتاب “العقد الاجتماعي” مجرد عمل فلسفي، بل كان بمثابة شرارة فكرية أشعلت جذوة التغيير السياسي. فقد ألهم أفكاره الثوار الفرنسيين الذين طالبوا بالحرية والمساواة، وأسهم في صياغة المبادئ التي قامت عليها الثورة الفرنسية عام 1789، حيث شكلت رؤيته عن السيادة الشعبية والأساس الشرعي للسلطة ركيزة أساسية لمناهضة الحكم المطلق وامتد تأثير روسو إلى ما هو أبعد من الثورة الفرنسية، إذ ساعدت أفكاره في إعادة تشكيل الفلسفة السياسية الحديثة، حيث أصبح مبدأ السيادة للشعب أحد الدعائم الأساسية للنظم الديمقراطية المعاصرة.

العقد الاجتماعي بين الشرعية والتغيير في القرن الإفريقي

من خلال استعراض فلسفة روسو في العقد الاجتماعي، نجد أنها ليست مجرد أطروحة فلسفية، بل أداة تحليلية يمكن من خلالها فهم تفاعلات السلطة والشرعية في القرن الإفريقي. فكما رأينا، تسعى الأنظمة الحاكمة إلى إضفاء الشرعية على سلطاتها من خلال استنساخ مبادئ السيادة الشعبية وحكم الشعب لنفسه، لكن هذه المفاهيم في الواقع تبقى مجرد شعارات إذا لم تُترجم إلى مؤسسات مستقلة وضمانات ديمقراطية فعلية ومن ناحية أخرى، فإن قوى المعارضة – كما في حالة ائتلاف BSN في جيبوتي – تستند إلى ذات المبادئ للمطالبة بالتغيير ، مما يعكس المفارقة الأساسية التي طرحها روسو: الشرعية السياسية الحقيقية لا تأتي من النصوص وحدها، بل من الإرادة العامة الفاعلة والممارسة الديمقراطية الحقيقية. وهنا تكمن المعضلة الأساسية في القرن الإفريقي؛ حيث تسود الأنظمة الهجينة التي تزاوج بين الخطاب الديمقراطي والممارسات السلطوية.

وفي الحقيقة، إن جوهر طرح روسو يقوم على فكرة أن السلطة ليست امتيازًا يُمنح للحاكم، بل عقد بينه وبين الشعب، يمكن مراجعته، بل وإلغاؤه إن أخلّ بشروطه. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن التحول الديمقراطي في القرن الإفريقي لن يتحقق بمجرد تعديل الدساتير أو تبني شعارات مستوحاة من الفكر السياسي الحديث، بل يتطلب وعيًا شعبيًا، ومؤسسات قوية، وقواعد دستورية تضمن مشاركة سياسية حقيقية، وهو ما لا يزال يمثل التحدي الأكبر أمام شعوب المنطقة.

وعليه، فإن العقد الاجتماعي ليس مجرد دعوة نظرية، بل هو خريطة طريق لإعادة بناء العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بحيث تصبح السلطة انعكاسًا حقيقيًا للإرادة الشعبية، لا مجرد أداة لضمان بقاء النخب السياسية. فإما أن يكون العقد الاجتماعي رافدًا لديمقراطية فعلية تستند إلى الإرادة العامة، أو يظل أداة شكلية تُستخدم لإعادة إنتاج الاستبداد بواجهة قانونية – وهذا هو الرهان الذي لا تزال شعوب القرن الإفريقي تخوضه حتى اليوم.

عبد الله الفاتح

كاتب وصحفي جيبوتي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى