فكر إسلاميمقالات

التدين عند الشخصية الصومالية

طلب مني الأخ الشاب عمر علي باشا من منظمي معرض برارغ Baraarug- أن أقول كلمة عن (التدين عند الصومالي) لم أتردد في تلبية الطلب لتبيان الحق ولتعم الفائدة ولأن الانخراط في سلك المثقفين يخفف من وطأة القضاء وخصوماته التي ترهق النفس.

فكرت في الموضوع هل فيه إشكالية؟ لأن الحديث في موضوع خال من الإشكالية ضرب من العبث، فقلت: نعم ثمة ظاهرة تستدعي الوقوف أمامها طويلا، وهو أن التدين عند الصومالي عنصر أصيل من ثقافته وتكوينه الاجتماعي ومؤثر في تشكيل واقعه السياسي والاقتصادي، وإذا كنا ساعين في إحداث تغيير في واقعنا فلابد أن نلتفت إلى العناصر المكونة لواقعنا، الباعثة لسلوكياتنا حتى يكون الإصلاح ماسا بالجذور لا بالقشور، فنبصر مواقع الخلل في التصور أو في التطبيق ثم نعدل من التدين نفسه إما بالزيادة أو بالنقص أو بإعادة ترتيب الأولويات وهكذا.

أول ما أستحضر في التدين لدى الصومالي هو نشأة هذا التدين وتطوره فيعود بي الخيال إلى الأيام الأولى من وصول هذا التدين إلى شعبنا، في عهد مبكر من القرن الأول الهجري، فأتلمس.. كيف كان الخطاب الأول الذي وصلهم وما سماته؟، وماذا كان نطاقه؟، ومن روّاده؟، وماذا كان مضمونه؟، وكيف تفاعل مع الواقع بمختلف ميادينه؟ وكم استغرقت عمليات التحول من مجتمع وثني يمارس الطقوس إلى مجتمع مسلم يتسم بقيم الإسلام وسماحته..لا أجد ما يشفي غليلي للإجابة عن تلك التساؤلات المرهقة.

ولكن الذي لا شك فيه أن عملية التحول لم تكن هينة بل استغرقت زمنا لا نعلم مداه، وفي ثنايا التحول والاعتناق لابد وأن يصادف الدعاة الأوائل عقبات وأزمات، وهذه المرحلة الأولى من مراحل التدين المتزامن مع جهود تبليغ رسالة الإسلام المبكرة، وفيها نشأ التدين ضعيفا ثم بدأت عملية الالتزام تواكب مع التوسع في فهم الإسلام.

ومع تقدم الأيام ، والتوسع في الرقعة الإسلامية نفترض عمق التدين وسعته، وآفاقه، واشتماله لجوانب حضارية تحقق رفاهية الإنسان وكرامته وسعادته، وتحفظ أمنه، وهذا لا يكون إلا بتطبيق الإسلام تطبيقا متكاملا يبدأ من الشعائر الفردية، وينتهي إلى إقامة الدولة .

نجد في ثنايا التاريخ نشأة المدن التجارية والسلطنات الساحلية، ومن خلال هذه السلطنات الإسلامية يشهد التدين تطورا وتوسعا عبر إنشاء مؤسسات داعمة للفهم وممارسة الإسلام، وعاملة على نشره وبثه. والسؤال المناسب في هذه المرحلة، إلى أي مدى وصل المجتمع الصومالي في فهمه لرسالة الإسلام من حيث شمولها وعمقها، ومدى اشتمالها لجوانب حضارية كمرفق الأوقاف الذي يدل على التوسع في فهم الإسلام وإدراك نظمه، والتي تستتبع وجود مؤسسات تخدم الأمة مثل الجوامع الكبيرة، والمدارس، والكتاتيب القرآنية، ونحوها.

مما ينبغي استحضاره كذلك نشأة التصوف وتغلغله في القرن الأفريقي، ومدى استحداثه لمفاهيم وتصورات جديدة، أدت إلى أنماط من التدين متصلة بالمعارف، وبالممارسات مثل التبرك والزهد والزاوية، والخلوة، والشطح والجدب ، وما يتعلق كذلك بالأضرحة مثل البناء والزيارة والطواف، ونحو ذلك.

مما يستحق الإشارة أن التدين بمعنى علاقة الفرد، والأمة بالدين ومدى تمسكها وتخلقها به وترجمتها له واقعاً ملموساً على الأرض ليس أمرا ثابتا بل متغير، وقابل للتجدد أو التردي والانحطاط ، والتجديد هنا يعني إعادة الناس إلى المستوى الذي ينبغي أن يكونوا عليه بعلاقتهم مع الدين .
ومن مهام المجدد إصلاح التدين من خلال تجديد الخطاب الديني الذي بدوره يصنع التدين.

وعلى سبيل المثال من هؤلاء المجددين الإمام أحمد بن إبراهيم الغازي (أحمد غري)المتوفى عام ٩٤٩هجرية ١٥٤٣م.. حيث شهد عصره تجديدا في فهم الإسلام وتطبيقه، ومن دلائل ذلك الزكاة جمعت وصرفت في مصارفها، وغنم المسلمون الغنائم، قال كاتب سيرته عرب فقيه بعد أن نعته بالمجدد ” منهم من يجدده بنشر العلوم في الآفاق، ومنهم من يجدده بضرب السيف لذوي الشقاق والنفاق، ومنهم من يجدده بحسن السياسة والدراية “.(فتوح الحبشة ص٤)

وهذا يعني أنه أحيا شرائع الإسلام ورد الأمة إليها؛ لأنه كان يرى أن الإسلام هو مصدر عز الأمة؛ وبالتالي يجب تطبيق الإسلام تطبيقا صحيحا يتمثل في إقامة أركان الإسلام من تحقيق التوحيد الظاهر، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والصوم ، وتطبيق شرائع الإسلام في مجال الأسرة والمعاملات، وفي علاقة المسلمين بغيرهم من الأمم، يشير إلى هذا نصوص كثيرة وردت في كتاب فتوح الحبشة الذي يصف عهده وصفا جيدا؛ حيث يقول عرب فقيه: “ثم إن الإمام قال للأمراء والسلطان الذي سلطنه مكان أخيه أبي بكر كما ذكرناه واسمه عمر دين في أمر الزكاة ؛ لأن السلطان والأمراء وأربابهم ومن تولى بر سعد الدين يأخذون الزكاة من المسلمين يأكلونها ويصرفونها في مصالحهم، ولا يعطون للفقراء والمساكين ومن يستحقها منها شيئا، فقال لهم الإمام أحمد –رحمه الله- : الحمد لله إن الله أكرمنا بالإسلام، وأعزنا، وأحل لنا الغنائم من أموال المشركين، وغنمنا غنائم ما غنموها-هكذا في الأصل- آباؤنا ولا أجدادنا ولا من كان قبلنا، فهي تكفينا نأكلها ونشتري منها آلة الحرب للقتال، وأما الزكاة ففرِّقوها على الثمانية الأصناف، فقال الأمراء والسلطان في حال الموقف – من خيفة الإمام أحمد رحمه الله تعالى: مرحبا بالذي تأمرنا فيه، ولا نخالفك فيه ، فحينئذ أرسل الإمام أحمد عمَّاله على أهل البلاد وأهل المواشي والزارعين وأخذ منهم الزكاة “(فتوح الحبشة ص ٨٩). وكذلك حكى ابن بطوطة في زيارته لمقديشو عن تنظيم إداري حضاري مبهر.

من الجوانب المهمة الإشارة إليها علاقة التدين بالخطاب الدعوي الإسلامي، وهذا واضح؛ لأن التدين يصنع عبر الخطاب الدعوي الذي يمارسه الوعاظ والفقهاء، وعلماء العقيدة ( المتكلمون)..
فالخطاب الصوفي يصنع تدينا، والسلفي يصنع تدينا وهكذا.
فإذا أردت تعديل التدين وإصلاحه فلابد من إصلاح الخطاب.

ومن الجوانب المستحقة للتأمل وجود أنماط كثيرة للتدين لا يمكن إغفالها فنقول هناك تدين سني وتدين بدعي، وتدين شامل وتدين قاصر، وتدين غال، وتدين علماني- إن صح التعبير – أي يناسب العلمانيين ونحو ذلك.

ومن أنماطه التدين الشعائري الذي يركز على الشعائر الظاهرة، ويهمل خدمة المجتمع وإصلاحهم، وتعليمهم ونحو ذلك. ويقابله لون آخر من التدين لا يعير اهتماما كبيرا للتأله والذكر، والخشوع وأداء الشعائر بل يركض لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية مع نية التعبد والالتزام بشكل عام. وفي نهاية المطاف ننظر في وجود معايير للتدين الصحيح، وبتأمل في النصوص وفي عصر النبي-صلى الله عليه وسلم-وعصر الصحابة نجد والله أعلم؛

الإخلاص، وهو الحرص على تحقيق عبودية الله، ونبذ الإشراك به.
□ الاتباع أي موافقته لتدين الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي هو النموذج والقدوة.
□ الشمول، وهو شمول التدين لكل مناحي الحياة، فيجمع بين التدين والتعبد لله في كل مجالات الحياة، مثل الاقتصاد والسياسة، والجهاد، ونحو ذلك.
□ التوازن بين عبادة القلب والجوارح، والمعرفة، والتوازن كذلك بين مطالب الجسد والروح، وحاجات الفرد والمجتمع.
□ البعد عن الغلو والتنطع ( هلك المتنطعون)، مع أن المتنطعون متدينون، مقيمون للشعائر، ولكن تدينهم تدين مغشوش أو منقوص فيه خلل. ( حديث الرهط الثلاث الذين تقالوا عبادة الرسول -صلى الله عليه وسلم-حين أخبر)

□ ومن تلك المعايير تحقيق التدين للسعادتين: سعادة الدنيا والآخرة، والحياة الطيبة في الدنيا قبل الآخرة؛ لأن الله ما شرع الشرائع إلا لتحقيق سعادة الإنسان؛ فعيش الإنسان في الشقاء والغموم، والهموم والمصائب مؤشر على وجود خلل في التدين، ويستأنس في هذا المقام قوله تعالى ( للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة، ولدار الآخرة خير) فحسنة تشمل حسن الأحوال في مجمل أمورهم؛ وهذا في الدنيا قبل الآخرة.
ويستأنس كذلك قوله تعالى (…. فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى)، أي ينجو من الضلال الديني، والشقاء الدنيوي.

وتأسيسا على ما سبق ألا يمكننا القول بأن تردي الأوضاع الحياتية، وشيوع الظلم والقهر والحروب في مجتمعنا مؤشر على وجود خلل في تديننا؛ الذي يتساهل أفراده في سفك الدماء الذي هو النهاية في الإفساد والفساد؟ ويهملون تمثل الأخلاق الإسلامية من صبر ورحمة وحلم ونحو ذلك، والتي كان بالإمكان ترجمتها إلى واقع عملي يمارسه المجتمع.

والله ولي التوفيق.

محمد عمر

كاتب وباحث، وقاضي في المحكمة العليا الفيدرالية في الصومال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى