القرن الأفريفيبحوث ودراساتمقالات

الحركة الدبلوماسية في العصور الإسلامية ودور العلماء في منطقة القرن الإفريقي (11)

العلاقات الحبشية الأوربية في المنطقة:

وبالرجوع إلى العلاقات الحبشية الأوربية يجدر بنا أن نشير إلى أوائل الرسائل والاتصالات الخارجية التي وصلت إلى عرش الإمبراطورية الحبشة جاءت من قبل ملك انجلترا هنري الخامس؛ حيث عنون رسالته باسم القديس يوحنا، وذلك بمعرفة أوربا أن الحبشة كانت الدولة المسيحية الوحيدة في المنطقة، ولا غرابة في ذلك؛ لأنّه من المعروف مع نهاية القرن الخامس عشر الميلادي كانت النعرة الصليبية قد وصلت إلى ذورتها، وكان لها دورها الفعال في سبيل ازدياد نشاط اتصال أوربا بالحبشة، وبمعنى ذلك أنّ وراد الكنيسة كان لهم الدور الأكبر في هذا النوع من العلاقة في تلك العصور. (غسان رمال ص 83)

وقد سبقت الإشارة إلى وجود جالية كبيرة من الأحباش تقيم إقامة دائمة في بيت المقدس في العصور الوسطى، بالإضافة إلى وجود دير لهم في المدينة المقدسة على اتصال دائم بمملكة الحبشة، مما يعني تعارف الجانبين الحبشي والأوروبي، وكان لدى الأخير فكرة الإفادة من الحبشة في حرب المسلمين عند الضرورة، وقد ازدادت هذه الفكرة عقب طرد الصليبيين كلية من بلاد الشام في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي.

وكان الأوربيون يطمعون دائما عقد العلاقة مع الحبشة، وفي سبيل تحقيق ذلك أرسلت البابوية سفارات عدة إلى ملوك الحبشة؛ لحثهم على المشاركة في حرب المسلمين، كما شجع البابوية على اضطهاد المسلمين، لاسيما في عهد الملك آمادا سيون الأول (1312 – 1344م) الذي امتد حكمه 32 عاماً.

وقد تحالف الجانبان على تضييق القوى الإسلامية في المنطقة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، مما يدل على أنّ الأمر لم يكن الأمر محصوراً فحسب في النواحي العسكرية، بدليل أنّ الأحباش بدؤوا محاولة لتحويل طريق التجارة العالمية بالاتفاق مع الغرب المسيحي بهدف إحكام حصار مصر المملوكية اقتصادياً، والقضاء على مواردها التجارية. والأوربيون من جانبهم كانوا ينادون إلى تجويع مصر عن طريق تحويل مجرى النيل في الحبشة، وهو مما كان يوافق تهديدات الحبشية من قبل عندما هددوا مصر مثل ذلك أكثر من مرة كما أشرنا من قبل.

وفعلاً كان باستطاعة ملوك الحبشة تنفيذ ذلك حسب رأي بعض الرحالة الأوربيين مثل جوردان سيفراك، ويوحنا ماريجنولي، بل وأشار سيمون سيجولي وبرتراند دي لابروكيير وبيرو طافور إلى أن باستطاعة القديس يوحنا تحويل مجرى النيل عن مصر والقضاء على رخائها، ولكن من جانب السلطات المصرية المتمثلة بالسلاطين المماليك اتخذوا بعض إجراءات وقائية أمنية تجاه النوايا الصليبية معاً على تحويل شريان مصر المائي، ومهاجمتها من قبل التحالف الحبشي والأوربي والقضاء عليها، وحتى لا يحصل على ذلك قام المماليك على بحظر الأوروبيين من الإبحار عبر أعالي النيل أو البحر الأحمر، وكان مرد ذلك القلق التاريخي الدائم من نيات ملوك الحبشة العدائية تجاههم، وما يترتب على الاتصال بين الغرب الأوروبي أو عملائهم وملوك الحبشة من نتائج وخيمة على مصر.

والمملكة الحبشية كانت ترى ضرورة التحرر والخلاص من سيطرة المسلمين على تجارة المنطقة منذ أن أصبحوا وسيطاً تجارياً بين الحبشة والعالم الخارجي، ومن هنا تلاقت أهداف الأحباش والأوربيين في هذا المجال، ومع هذا كله فإنّ المملكة الحبشية كانت مترددة على تجويع مصر وتحويل مجري النيل للقضاء على مصر بحيث يرون أنّ ذلك يؤدي إلى هلاك إخوانهم المسيحيين في مصر جوعاً أيضاً، وهو ما لم يرغبوا فيه، رغم أنّ هوى الأحباش كان مع الأحلاف الصليبية الأوربية منذ أن اشتركوا مؤتمر فلونسا ( 1439 – 1441م) عند ما أرسلوا بعثتين دينيتين من القاهرة والقدس كما سبق الإشارة إلى ذلك. (رجب عبد الحليم: العلاقات السياسية بين مسلمي الزيلع ونصار الحبشة في العصور الوسطى، ص 77 -78 ؛ عمرو عبد العزيز منير: مصر والنيل بين الحبشة وأوروبا في العصور الوسطى، مقال في جريدة الحياة).[1]

كانت مصر تهدف إلى منع أي اتصال يتم بين الحبشة وأوربا حتى لا يتآمروا على مصالحها، علماً أنّه كان لديها إحساس كبير على تلك المحاولات، وفعلاً قد أثبتت الأيام تلك المحاولات العدوانية عند ما قبض جنود السلطان برسباي على تاجر فارسي يدعى نور الدين علي تبريزي والذي اعترف بدوره بأنّ الملك الحبشي أرسله إلى ملك النرنجة يدعوه إلى الانضمام إليه لسحق المسلمين ونصرة المسيحية في المنطقة. ( غسان رمال: صراع المسلمين مع القوى الصليبية في البحر الأحمر، ص 82).

علاقة الحبشة بالبرتغال:

واستمر استنجاد الأحباش بالأوروبيين فترة طويلة، وكان ذلك مرتبطاً عند شعورهم بأنهم في مواجهة بحر إسلامي هنا وهناك، ومن هنا تمّ الاتصال بالبرتغاليين عقب وصول أسطولهم البحري على المحيط الهندي والبحر الأحمر وأنّ الأحباش لم تتوانى عقد العلاقة معهم، وخاصة في عهد ملكة هيلينا (هيلانه) ولبنا دنجل؛ حيث شرعت الاتصال البرتغاليين وتبادل الطرفان الرسل والرسائل، وتمت بينهما المفاوضات، واتفقا على الهجوم على المسلمين في كل مكان يمكن أن يصلوا إليهم فيهم ، سواء كان هؤلاء المسلمون في مصر أم في بلاد الحجاز أم في منطقة القرن الإفريقي، وأيدت البابوية في روما ذلك. وأشار المؤرخون ما قام به ملك لبنا دنجل عند ما أرسل جون بر مودث كمبعوث خاص إلى ملك البرتغال يستنجد به عام 942هـ/1535م، خاصة وأنّ الأتراك العثمانيين كانوا قد ظهروا في البحر الأحمر بعد احتلالهم لمصر عام 923هـ/1517م. ويقال أنّ البرتغاليين كانوا أهم عامل ساعد الأحباش في القضاء على حركة الجهاد الإسلامي الذي كان يقود الإمام أحمد جران، بل وكانت الضربة القاضية على يد البرتغاليين الذين أنهوا هذا الصراع وساعدوا كلوديوس على التخلص من الإمام أحمد جران بقتله في شهر شوال عام 949هـ/ فبراير عام 1543م، وبذلك أنهوا آخر حركة قوية للجهاد قام بها مسلمو زيلع في تلك الفترة.

( رجب محمد عبد الحليم: العلاقات السياسية بين مسلمي الزيلع النصارى الحبشة، مرجع سابق، ص167 ، 206)

إذاً يتضح فيما سبق أنّ علاقة الأحباش بالبرتغاليين برزت فور وصول البرتغاليين في المنطقة رغم أنّ هذه العلاقة توقفت بعض الفترة، إلا أنّها استؤنفت بإرسال الملك لبنا دنجل بخاطبين إلى البابا كليمنت السابع، وآخر إلى ملك البرتغال يطلب منهما المساعدة؛ لأنّه أحس بقوة المسلمين وعزمهم على القيام بحرب ضده. ومنذ ذلك الوقت كان للبرتغاليين فضل للقضاء على الحركات الجهادية في منقطة القرن الإفريقي ، بقيادة الأمير محفوظ في أرتيريا ، والإمام أحمد جري في الصومال الغربي وبعض المناطق الأخرى في الحبشة.

(خديجة أحمد الطناشي: العلاقات السياسية بين القوى الإسلامية والمسيحية في الحبشة خلال النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي، منشورات مركز دراسات جهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي، ط/1، عام 1996م، طرابلس – ليبيا، ص 191 – 193).

موقف القوى الإسلامية تجاه الحلف الصليبي في القرن الإفريقي:

مرة أخرى نرجع إلى علاقة سلاطين المسلمين في بلاد اليمن مع إخوانهم في بلاد الحبشة وخاصة بعد تدخل الخط القوى الأوربية الصليبية، علماً أن أهل اليمن كان لهم دور كبير في مساعدة المسلمين في منطقة القرن الإفريقي كلما تشتدّ عليهم هجمات المملكة الحبشية، واستمر مساعدة أهل اليمن بإخوانهم المسلمين تجاه مدافعة الدور والبيض ضد الحلف الصليبي الحبشي والأوربي. وتتجلى الجهود اليمنية وما قاموا به في سيبل الوقوف مع المجاهدين في منطقة القرن الإفريقي من خلال ما ذكره المؤرخ اليمني ابن البديع صاحب كتاب بغية المستفيد في تاريخ مدينة زبيد، وشار إلى ما حدث في عام 879هـ/ 1474م عند ما أرسل سلطان اليمن شمس الدين بن طاهر بن معوض الأموي العمري من سلاطين الدولة الظاهرية ( 858هـ -883هأ/ 1454م – 1478م) إلى المجاهد في سبيل الله شمس الدين بن محمد مائة وخمسة أفراس من الخيل العربية والسيوف والرماح والدروع إعانة له ويرجو من الله أن يتقبل هذا العمل الصالح منه، ثم في سنة 881هـ/ 1476م أرسل له مرة أخرى من عدن نيفاً وخمسين فرساً تكملة للعدد السابق إعانة له في سبيل الله.

( ابن الديبع، عبد الرحمن بن علي بن محمد بن عمر ( 944هـ/ 1537م): بغية المستفيد في تاريخ مدينة زبيد، تحقيق عبد الله الحبشي، صنعاء، عام 1979م، ص 150 – 154)؛ وانظر نوال الصيرفي: الجهاد الإسلامي في شرق أقريقية ، ص 74).

ومن خلال تتبع الأحداث التاريخية يتضح بأنّه لم تنقطع علاقة المسلمين في منطقة القرن الإفريقي ببلاد اليمن حتى في أحلك الحالات وأصعب الظروف ، كما كان يحرص سلطان صبر الدين بهذه العلاقة بحيث لم تنقطع مدة حكمه بل كان يبعث بإخوته لطلب الإمدادات العسكرية من السلطان الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل وكان هذا لا يبخل في مساعدة المسلمين في المنطقة للوقوف في وجه الاضطهاد الحبشي، ، ويكفي أن نشير إلى ما ذكرت المصادر اليمنية في أن السلطان الناصر قد أمدهم عام 825هـ/1422م بمائتي فرس مع عتادهم الحربي ولم يزل يغدق عليهم الخيرات حتى قويت شوكتهم. (يحيى بن الحسين بن القاسم بن محمد بن علي ( 1100هـ) : غاية الأماني في أخبار القطر اليماني، تحقيق د. سعيد عبد الفتاح عاشور، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة ، عام 1388هـ/ 1968م، 1/565).

الخاتمة:

وهكذا يتضح من خلال ما سبق معالم ومكانة الدبلوماسية عند الأمم القديمة مرورا بالعصور الإسلامية، التي أرست قواعد مميزة في الأسس والأهداف والصفات، التي ينبغي أن تراعى في اختيار الدبلوماسيين، وما يعامل به الدبلوماسيون الأجانب أثناء مكوثهم في البلاد الإسلامية. كما يتضح مدى التطور المعاصر الكبير الذي طرأ على العمل الدبلوماسي وألقاب أفراده، وما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات نصت عليها الاتفاقيات الدولية المتوالية.

وفيما سبق يتجلى بأن العلماء في الصومال وغيرهم في منطقة القرن الإفريقي لم يكونوا منعزلين عن السلاطين ماداموا على الشريعة والدين، سواء كان هؤلاء العلماء الوافدين أم من أهل البلاد الأصليين الذين كانوا يتقربون إلي ولاة الأمور ويعقدون معهم علاقات حميمة مثل السلطان سعد الدين سلطان المسلمين بالحبشة في زمانه حيث كان يصاحب الفقهاء والعلماء وينشر العدل في أعماله ،وبسبب هذه العلاقة ، وحسن خلق السلطان انتشر الإسلام بين أوساط المسيحيين والوثنيين ودخل في دين الله خلق كثير.

والجدير بالإشارة إلى أنّ الحبشة كانت تقوم بغارات على سواحل الحجاز وعند ما كثرت غارات القراصنة الأحباش لم يسكن المسلمين رغم قلة خبرتهم في مجال البحر، بل لجأ المسلمون منذ عصر الخلافة الراشدة وبداية الخلافة الأموية إلى وضع لحماية السواحل، ولاسيما منافذ جدة وينبغ في وقت لم تكن فيه البحرية الإسلامية ، وعند ما بدأت تظهر البحرية الإسلامية وتكونت كان أولى أعمالها مهاجمة أوكار هذه العصابات ، وإقامة مجموعة من الخطوط الدفاعية عن طريق الاستيلاء على جزر دهلك التي تقع أمام السواحل الحبشية – كما أشرنا من قبل – من هذا نرى أن اتصال العرب المسلمين بالسواحل أمر قد أوجبوا عليه ، أي أن المسلمين لم يهرعوا إلى الساحل الحبشي كغزاة في تلك الفترة، وبوصول بني أمية إلى الحكم ، نشبت كثير من الثورات الداخلية ضدهم، كثورات الشيعة والخوارج في العراق وما وراء النهرين، والزبيريين في العراق والحجاز ، ثم فرت أعداد منهم إلى بلاد بعيدة مثل المغرب وخراسان وسواحل الحبشة، وسواحل شرق إفريقية، والتي كانت خارجة عن سلطة بني أمية ، الذين ما لبثوا أن تتبعوهم حيث استولوا على بعض الجزر الساحلية أمام سواحل الحبشة، (زاهد رياض: الإسلام في اثيوبيا ص54- 56، توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام، ص 378، ترجمة حسن إبراهيم حسن وآخرون، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط 3 ، عام 1970م، انظر غسان البرمال: المرجع السابق ص 164 – 165).

وغالباً كان هدف علاقة المملكة الحبشية إلى الخارج ضد استقرار ومصلحة المنطقة، في حين كان للمسلمين من خلال سلطناتهم الإسلامية علاقة الاتصال بالعالم الخارجي، وهو ما كان له أغراض إيجابية سواء كانت هذه العلاقة بعلاقة اقتصادية والبحث عن طرق التجارة، أو تمّت بعوامل دينية وعلمية كالحج والعمرة ، وكذا الرحلة العلمية بحيث كان الطلاب يسافرون إلى مكة والمدينة المنورة ودمشق والقاهرة طلباً للعلم، حتى صار لهم أروقة خاصة كوراق أهل زيلع بالمسجد الأموي بدمشق والأزهر في القاهرة، وكذلك وراق الجبرتية في الأزهر الشريف في القاهرة، مما كان له أثر عظيم في انتشار الثقافية العربية الإسلامية في بلادهم عقب عودتهم، بل واشتراكهم في النواحي الحياة المختلفة كتوليتهم بالمناصب الكبرى في البلاد مثل مناصب القضاء وغير ذلك . (غسان الرمال: المرجع السابق، ص 169 ، 171).

وبالله التوفيق.

[1]http://www.alhayat.com/article/442648/%D9%85%

محمد حسين معلم

د. محمد حسين معلم على كاتب له ميول تاريخية بحكم تخصصه في التاريخ والحضارة وله مؤلفات في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى