سئل الصحابي الجليل سلمان الفارسي.. لماذا تكره الإمارة؟ فقال: زهدني فيها حلاوة رضاعها ومرارة فطامها. وهذا توصيف عجيب وكأنه تشخيص دقيق لأحوال زعماء العرب اليوم. يرضعون ثدي السلطة عشرين أو ثلاثين او أربعين عاما ويتذوقون حلاوة الرضاع ويستمرئون نعيم السلطة ولذائذها حتى جاوزا مرحلة الفطام وانتفخت أوداجهم وبطونهم وضمرت عقولهم وقست قلوبهم؛ لأن الرضاع بعد حولين من رضاع الكبير الذي لا ينمي عقلا ولا يزكي نفسا ولا يقوي عاطفة. وإذا كانت الرضاعة من المجاعة فإن رضاعة القوم من التخمة.
صارت السلطة جزءا من حياته وبضعة من جسمه لا يتصور نفسه دونها من طول ما تربع على عرشها ورتع حدائقها حتى إذا جاء وقت الفطام ثار وصال وجال وأرعد وأزبد وتشبث بكلتا يديه على ثديي السلطة يمصها ويعمل كل شيء من أحل البقاء في الكرسي. يقتل ويسجن ويطلق النار على الشعب ويستخدم الغاز المسيل للدموع؛ ولكنه لا يدري أن لكل أجل كتاب، وان لصبر الشعب حدودا، وأن كل رضاع لابد وان يعقبه فطام. وكما قال الإمام الغزالي “فان الفطام عن المألوف شديد والنفوس عن الغريب نافرة” فإن هؤلاء لا يتركون السلطة طواعية إلا بالقتل أو السحب أو الخلع أو السلخ. فقد سكّرت السلطة أبصارهم فلا يرون وختم الاستبداد على عقولهم فلا يفهمون وطبع الطغيان على قلوبهم فلا يفقهون.
زخارف السلطة وبريقها ومتاعها وحلاوتها كل ذلك لا يساوي شيئا. وفي الآثار أن يوم القيامة يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيقال له: هل رأيت نعيما قط؟ فيقول لا، والله ما رأيت عمري نعيما قط! وهكذا السلطة، فمهما بقى الإنسان فيها فإن مرارة الفطام هي التي تبقي في فمه وينسى حلاوة رضاع الأعوام الطوال. فالعاقل من اغتنم فرصة وجوده في السلطة لخدمة بلاده والعمل بما فيه المصلحة العامة لشعبه فيكون ذلك بمثابة ذكرى طيبة تخلّد اسمك ويحمدك عليها شعبك بدل أن يلعنك ويدعو عليك.
لابد أن يستوعب زعماء العرب الدرس، فقد ولَّى زمن الاستبداد والطغيان. فالشعوب لم تعد قطيعا من الغنم يسرح راعيها متى شاء وكيف شاء ، ولم يعد الوطن مزرعة خاصة للحاكم وزبانيته وحاشيته يتمتعون بها ويلهون. انتهت المسرحية، لقد فهم الشعب أنهم مواطنون لهم حقوق المواطنة في بلدانهم، وأنهم أصحاب السيادة الفعلية على مصيرهم يختارون حكامهم ويراقبونهم ويحاسبونهم. يمكن أن تخدع كل الناس بعض الوقت، وبعض الناس كل الوقت، لكنك لن تستطيع خداع كل الناس كل الوقت. أظن أنكم فهمتم الدرس ولا أريدكم أن تفهموه كما فهمه صاحبكم لما قال “فهمتكم” وهو في السماء في طائرته هاربا يتصل برؤساء دول العالم وهو على متن الطائرة لبحث مكان آمن له. وفِي هذا عبرة كافية لأولى الألباب. عليكم بالتوبة النصوح وهي الرحيل بهدوء ودون مزيد من الدماء والماسي، وأما التوبة في وقت الغرغرة فإنها لن تقبل وقد تنتهي بكارثة سلخ أو خلع، والأمر إليكم فانظروا ما ذا تفعلون !