مقالات

الصور النمطية المتبادلة بين القبائل الصومالية… والحاجة إلى سردية بديلة

تخلف الحرووب الأهلية كلما نشبت إلي جانب الخسائر المادية والبشرية مآسي اجتماعية أهمهما تنامي العصبية القبلية وصور نمطية من النعرات الطائفية وبروز مدى قتامة تلك الصور النمطية المتبادلة بين العشائر؛ والجدير بالذكر أن الصراع العشائري في الصومال ليس كما يتبادر إلي الأذهان بسبب اختلاف في الأنساب أو الديار أو تزاحم على منافع ومصالح آنية وإنما يرجع بالأساس إلي اختلاف وتباين في السرديات، فلكل عشيرة سردياتها وأساطيرها التي لا تشاركها فيها عشيرة أخرى وهذه السردية هي التي تشكل هويتها وانتماءها ، وكل عشيرة – حسب سردياتها وأساطيرها – قوة لا تقهر وأمجادها لا تعد ولا تحصى ونفيها أو إنكار بعضها نوع من الجحود والمكابرة مهما كان ذلك مخالفا للمنطق والتاريخ !

وللعشائر الصومالية كغيرها من المجتمعات الأفريقية والعربية ثقافة الاعتداد بأمجاد القبيلة حيث أن لكل قبيلة سردياتها وأساطيرها التي لا تتوفر  للقبائل الأخرى ولا تجد في تلك السرديات ما يشهد بفضل أو نجاح لأي قبيلة أخرى مهما كان ذلك باديا للعيان بل ينسب إليها كل سوء ونقيصة ومن حيث التعداد فهي قبيلة لا يلتفت إليها وهي حتما أدنى منزلة من العشيرة صاحبة السردية بل هي مجموعة من الأشرار لا هم لها سوى الإيقاع ببني فلان أو القضاء سيادتهم وعشيرتهم حسب سرديتها محقة في كل نزاعاتها مع العشائر الأخرى وإن كانت هي الظالمة في الواقع!

و تكمن خطورة تلك السرديات في أنها هي التي تطبع الصور الذهنية لكل قبيلة عن المنتمين إلى القبيلة وكذلك المنتمين إلى القبائل الأخرى في ثنائية عجيبة لا تستند إلى عقل سليم أو شرع قويم، مفادها أن كل من ينتمي إلى قبيلتك لا يتصور منه خطأ وكل أخباره صادقة لأنه ثقة، وكل من ينتمي إلى القبائل الأخرى لا يتصور منه صواب وكل أخباره كاذبة لأنه غير جدير بالثقة، كما تكمن خطورتها في أنها هي التي توجه القبيلة وتتحكم في ذاكرتها الجمعية، وأشار جوستاف لوبون إلى خطورة السرديات والأساطير في كتابه : السنن النفسية في تطور المجتمعات ، وذكر فيه أن الأساطير هي التي تحكم العقل الجمعي لكل عرق ولذلك سماها بروح العرق ، ويعني بذلك أن تلك الأساطير هي التي توجه المجتمعات فهي عنده بمثابة البرمجيات التي تتحكم بمصيرها إن تخلفا أو تقدما .

وإذا قربنا المجهر إلى الحروب عند احتدامها ندرك بشكل جلي أن الصراع ليس بين عشائر وإنما بين سرديات متناقضة تحيل إلى سرديات أخرى موغلة في القدم تجتر معارك ( غبا – guba ) وأمثالها وتجعلها جذعة كأن غبارها لم ينقشع بعد! وهذا دليل على أن المشكلة العشائرية أعمق بكثير من تقاتل نشب بين أفراد من  عشيرتين أو ثارات بين متخاصمين فهي مشكلة تصورية لها طابع معرفي ويصعب تغييرها إلا بإحلال تصورات معرفية بديلة محل التصورات القديمة عن طريق صياغة سرديات أخرى تشهد لكل عشيرة ما لها من فضيلة وتذكر محاسنها وتشيع مآثرها وأيامها  ويكون ذلك بأمرين هما :

1. كتابة أشعار العشائر وأيامها ونشرها، لتكون علما مشاعا بين العشائر لتطلع كل عشيرة على ما لدى العشائر الأخرى من أيام وأمجاد ، وبذلك نقضي على السرديات المغلقة التي احتكرت الفضائل لقبيلة معينة ونسبت الشرور والنقائص للعشائر الأخرى، وهذا ما فعله كتاب الأدب العربي بحيث جمعوا شعر كل عشيرة في ديوان ودونوا أيام العرب في أسفار مشرعة لكل شاد فتداول الناس أخبار كل العشائر ووقفوا على ما لها وما عليها وتكونت بذلك ذاكرة جمعية مفتوحة المصدر وزالت بذلك القدسية عن السرديات المغلقة التي كانت تتناقلها العشيرة بروح العرق عبر رواتها وبات بالإمكان الطعن فيها استنادا إلى روايات أخرى أوثق منها وأقرب إلى المنطق .

2. بناء سردية بديلة عن السرديات القبلية المغلقة بحيث تكون هوية جامعة وانتماء مشتركا لكل الأمة ، والإسلام بلا شك هو الهوية الجامعة لكل القبائل الصومالية ،وقد بذلت حكومة العسكر جهدا قوميا هائلا في هذا الاتجاه ولقنت الناس عن طريق إعلامها ما قالت إنه تاريخ مشترك وقامت بترميز شخصيات نضالية ونصبت لهم تماثيل ونزعت من نضالهم الدسم الديني وجعلتهم أبطالا قوميين وحاكت قصصا كثيرة حول النضال التحرري وتمكنت بذلك إلى حد ما من بناء حس وطني جامع لكنه انهار أو كاد بفعل الحرب الأهلية التي أعادت الناس إلى سرديات ما قبل الدولة ومع ذلك لا نزال نلمس – وإن كانت باهتة – آثار تلك السردية القومية في نفوس الصوماليين لكنها في الجملة لم تعد صالحة لمزاحمة السرديات المغلقة التي تركز على أمجاد القبيلة بصفتها ملكا خاصا بدلا من القومية التي تراها القبيلة أنها مشاعة أو فيها مآثر لعشائر أخرى .

والسردية الإسلامية التي كان من المفترض أن تحل محل القومية  – على افتراض وجودها – لم تنل حظها من الانتشار ولم ينجح دعاتها ببناء سردية متماسكة تربط مصير الناس بالإسلام وتنسيهم النعرات القبلية الجاهلية ، والسردية الإسلامية التي أعنيها هنا ليست هي تاريخ الإسلام العام وإنما أعني التاريخ الإسلامي الصومالي وأساطيره وبطولاته ولا أعلم جهدا دعويا ركز على ذلك أو كتب فيه مقاربات يمكن الانطلاق منها إلا ما كان من كتابات نادرة عن تاريخ الصحوة الإسلامية المعاصرة في الصومال ، فهي على ندرتها وقلة انتشارها بحاجة إلى ربطها بحلقات التاريخ الإسلامي قبلها وتكثيف طرحها إلى الرأي العام عن طريق الإعلام المرئي والمسموع بالإضافة إلى نشرها في كتب رصينة وتدريسها في الجامعات والمحاضن العلمية الأخرى.

حسن محمد إبراهيم

حاصل على ليسانس شريعة من كلية الشريعة بجامعة دمشق وكاتب متخصص في شؤون الحركات الإسلامية، وباحث في قضايا شرق أفريقيا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى