ثقافة واجتماعمقالات

الكفاءة فى النسب فى الزواج عرفٌ وليست دينا

قراءة في النصوص الفقهية في ضوء المقاصد الشرعية:

الزواج مسألة خطيرة في الحياة البشرية، وليس فقط مسألة عادية، واعتبر الإسلام الأسرة الخلية الأولى والأهم في البناء الاجتماعي خلافا للمذهب الغربي الرأسمالي الذى يرى في الفرد الأساس الأول في البناء الاجتماعي.

جاءت الشريعة الإسلامية لتحقيق المصالح، ودرء المفاسد، وهي شريعة معقولة، ومعلولة، ومبنية على الرحمة، والعدل، والمصالح، والخير كما قال ابن القيم رحمه الله : فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم، ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها.

يقول العز بن عبد السلام: من مارس الشريعة، وفهم مقاصد الكتاب والسنة، علم أن جميع ما أمر به لجلب مصلحة، أو مصالح، أو لدرء مفسدة، أو مفاسد، أو للأمرين معا، وأن جميع ما نهى عنه، إنما نهى عنه لدرء مفسدة، أو مفاسد، أو جلب مصلحة، أو مصالح، أو للأمرين معا، والشريعة طافحة في ذلك .

في النصين لهذين العلمين من علماء الأمة قضية بارزة، وهي أن الشريعة ليست بلا مقاصد، بل هي جاءت لتحقيق المقاصد، ومن أهم مقاصد الشريعة تحقيق المساواة بين البشر، ولا يحصل ذلك في غياب العدل، ووجود طبقية طاغية تقوم على الاستعلاء الاجتماعي، وهي مفسدة عامة، ويجب محاربتها حتى لا ينهدم البناء، والنَّاس يولدون أحرارا، ومتساوين أمام العدالة، ومن حقهم أن يعيشوا كذلك، ولهذا جاءت الشريعة (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)

هدم الإسلام أركان الجاهلية، ومن أسس الجاهلية التفاخر بالنسب، ومقام الجماعة النسبية بين الناس، ولهذا وجدنا الإسلام يأتى بالبديل مقام الوحدة النسبية، وهذه تمثل بالوحدة العقدية (المسلم أخو المسلم)، بهذه المفردة هدم الإسلام بنيانا قام على النسب وحده، وجعل النسب معيارًا، ولكن الإسلام جعل المعيار الأهم في الدين، والدين هنا ليس طقوسا، بل هو مذهب حياة، وقضية عقيدة، وتحوّل رؤية، ومن قال (لا إله إلا الله) خرج من حياة الجاهلية التي أسستها المدارس الفكرية البعيدة عن روح التصور الإسلامي، ودخل ساحة أخرى، وهي ساحة التوحيد، ومن هنا يبدأ رحلة جديدة نحو الحياة، وبهذا كانت هذه الكلمة عند الإنسان الأول من الصحابة تمثل ثورة مفاهيمية، وتحول نحو التاريخ .

ليس من العبث أن تكون الآية (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) مفتاحا جديدا للعلاقات الاجتماعية الجديدة تحت مظلة الإسلام، ومن هنا نستطيع أن نجد من الآية الكريمة من سورة الحجرات ما يلي :

أولا: إن الخطاب موجّه للناس جميعا، فالناس كلهم محل للخطاب الرباني، ورسالة محمد عليه الصلاة والسلام ليست للعرب بخلاف الرسالات السابقة، فقد كانت الرسالات السابقة محلية، ومؤقتة، ولكن الرسالة المحمدية عالمية، وخالدة، ولهذا كانت رسالته عالمية (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)

ثانيا: تناولت الآية بعدا آخر من أبعاد الرسالة، وهي أن البشر كلهم سواء، فليست هناك جماعة بشرية تمتاز عن الآخرين في النسب والعرق، والجميع منحدرون من آدم وحواء ( خلقناكم من ذكر وأنثى)

ثالثا: إن الله تبارك وتعالى اختار أن تتحول الأسرة البشرية إلى جماعات مختلفة في كل شيء، في اللغة، واللون، والمكان، وهذه آية من الآيات التكوينية الدالة على طلاقة القدرة الربانية (واختلاف ألسننكم وألوانكم)

رابعا: وضع الله تبارك وتعالى معيارًا واحدا للتفاضل بين البشر عنده، وهو التقوى، أي التدين الصحيح والسليم، وهذا ليس معروفا عند الخلق، بل أمر ذلك راجع إلى الخالق (التقوى ها هنا) وأشار عليه الصلاة والسلام إلى صدره الشريف ثلاث مرات.

في حجة الوداع توجّه الرسول إلى عموم الحجاج خطابا له دلالات عميقة، ولكن البعض من الناس لم يلتفت إلى مضمون الخطاب وعمقه، قال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس، كلكم آدم، وآدم من تراب، لا فصل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى)
في هذا الخطاب النبوي رسالة قصيرة، ولكنها حملت معها ما يسمى اليوم بالقيم العليا للدساتير، وهي المساواة أمام القانون، وعدم الالتفات إلى المعايير الأخرى التي لا تتناسب مع المعايير الموضوعية .

إن المفردة النبوية تجاوزت عقدة التاريخ مع الإنسان، فلا وجود لمجموعة بشرية تمتاز عن المجموعات الأخرى بسبب الدين (نحن أبناء الله وأحباؤه ) أو ما يسمى بشعب الله المختار عند بعض الشعوب، ولا وجود لمجموعة بشرية تمتاز عن المجموعات الأخرى بسبب اللون (الجنس الآري المفضل)، ولا وجود لقبيلة تمتاز عن القبائل الأخرى بسبب موقعها من العالم (قريش) نموذجا، فكانت لا تبيت في مزدلفة كبقية الناس؛ لأنها كانت تعتقد أنها سدنة البيت الحرام، فقال لها الوحي ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس )، ولا وجود لأمة لها مكانة دينية لا تتحرك منها مهما صنعت من الجرائم (ليس بأمانيكم، ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به)
في النص النبوي جملة من الأفكار والقيم الدستورية التي لا يجب أن يناقض عليها فقه، ولا قانون، فإن خالف الفقه، أو القانون فلا أثر له، ومن هذه القيم:

أولا: وحدة البشر مبدأ ومصير، ولهذا فلا بد من مراعاة الوحدة في المسيرة الزمانية والمكانية (أيها الناس، كلكم من آدم)

ثانيا: تأكيد المساواة من خلال الوحدة المبدئية، فإذا كان البشر كلهم من آدم، فآدم من التراب، أي ليس هناك جماعة مصنوعة من الذهب، وأخرى مخلوقة من الحديد، وثالثة مختارة من الماس، بل الجميع من التراب .

ثالثا: يترتب من هذه الوحدة المبدئية بين البشر، وحدة أمام القانون، وأمام التاريخ، وتنتفي بسببها كل المعايير الجاهلية في التفاضل بسبب الدم، أو الأرض، أو اللون، فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ومن هنا تبدأ البشرية رحلة جديدة نحو التاريخ، وهذا ما تحقق في ومن النبوة، فقد تزوج زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب أم المؤمنين رضي الله عنها، وتزوج بلال رضي الله عنه بنت البكير بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا وجود في المجتمع النبوي الكفاءة النسبية، وكانت معيارًا من معايير الماضي، فالمعيار هنا الدين فقط .

إن الفقه الإسلامي صناعة الفقهاء، وليس كله تشريعا ربانيا، فمنه ما هو تشريع رباني، وهذا هو الغالب فيه، ومنه ما هو رأي وفكر، وجاء مراعاة للبيئة والزمن، ولهذا فلا بد من مراجعة عميقة للتراث الفقهي، ونحن لسنا من عُبّاد التراث، ولا من مقدّسيه، لكننا نحذر من تدنيسه كذلك باسم المعاصرة والحداثة، ومع هذا ندعو إلى ضرورة غربلة الفقه، ومراجعته حتى يكون متسقا مع مقاصد الشريعة وقيمها الكبرى .

لقد اتفق الفقهاء على مراعاة الكفاءة في الزواج، وهذا أمر صحيح، ولكنهم اختلفوا اختلافا كبيرا في ماهية الكفاءة، وما هي معاييرها؟
ذهب الإمام الأعظم أبو حنيفة رحمه الله أن الكفاءة تكون في النسب، والدين، والحريّة، وإسلام الآباء، ومن هنا فلا يجوز أن يتزوج غير القرشي القرشية لأنه ليس كفؤا لها، ولا غير العربي العربية، لأنه ليس كفؤا لها، ولا غير المسلم على المسلمة، ولا الفاسق البين فسقه على المتدينة، والعبد على الحرية، ولا من كان أبوه كافرا على المسلمة من أب عن جد .

يرى الشافعي على أن الكفاءة في الدين، والنسب، والحريّة، والصناعة، والبراءة من العيوب، والمال في أحد الوجهين، وهو بهذا اتفق مع أبى حنيفة في ثلاث، وخالف معه في ثلاث، وهي الصناعة، والبراءة من العيوب، والمال .

واتفق أحمد مع الشافعي في الدين، والنسب، والحريّة، والمال، والصناعة، في إحدى روايتيه، وله رواية أخرى لا يعتبر فيها الكفاءة إلا في الدين والنسب فقط .

يرى مالك بأن الكفاءة تكون فقط في الدين، والحريّة، والسلامة من العيوب الموجبة للرد، فهذه هي أقوال مؤسسي الفقه الكبار، واتفقوا في مراعاتها، ولكنهم اختلفوا ماهيتها اختلافا كبيرا، وهذا في الغالب الأعم ليس عائدا إلى نصوص قاطعة، وبينة، ولكنها تعود إلى مراعاة البيئات المختلفة .

وجدت عند بعض الفقهاء تعريفا للكفاءة، وهي مساواة مخصوصة بين الرجل والمرأة، أو مماثلة ومقاربة في التدين والحال، ونحن حين نتأمل النصوص العامة، والخاصة في الوحي لا نجد أبدا تفاضلا بين البشر، بل المساواة المطلقة بينهم هو الأصل، ولهذا فلا بد من مواجهة ما يطرح باسم الفقه اليوم التفاضل بين البشر، فالأمريكي المسلم كفؤ للمسلمة الأفريقية، والمسلم العربي كفؤ للمسلمة الألمانية، وكذلك الصومالي المسلم مهما كانت قبيلته كفؤ للصومالية المسلمة مهما كانت قبيلتها، فلا وجود لقبيلة لها وضع معيّن في المجتمع، فالناس سواسية كأسنان المشط .

حين قرأت معيار الحرفة عند بعض الفقهاء، وجدت كلاما عجيبا وغريبا، رأيت راعي الغنم أفضل من صانع الأسلحة، فالأول أصيل لأنه من رعاة الغنم، والثاني ليس أصيلا، لأنه من أهل الصناعة، هل رأيتم كيف تتحول البداوة إلى حضارة ؟ والحضارة إلى بداوة في مجتمع غير متحضر أصلا ؟
من يحدد الكفاءة ؟ إذا كان النص هو المُحدِّد، فلا نص هنا، وإذا كانت البيئة هي الأصل في التحديد ؟ فالأصل في البيئة التغير لا الثبات، والقيم ثابتة، والمساواة بين الشر قيمة ثابتة، وتحتاج إلى نص، ولا يلغيها من الاعتبار إلا نص معتبر، وحيث لا نص، فلا معنى لإلغائها من الاعتبار، ووجدت أن بعض الفقهاء ذكروا أمثلة الصناعات الرديئة بالحائك، والحجام، والحارس، والكساح، والدبّاغ، والقيمي، كما اعتبروا التجارة، والجهاد أمثلة للصناعات الشريفة، ولكن الوحي الكريم من خلال النص النبوي أشار بأن الصناعة مهما كانت فهي شريفة، وصاحبها شريف ( إن أطيب ما أكل الرجل من كسب يده، وإن ولد الرجل من كسبه)

وجدت المذهب الظاهري قريبا من الصواب، وممثلا للتصور الصحيح للرؤية الفقهية المتوازنة في هذا حين قرر ابن حزم رحمه الله قائلا: أهل الإسلام إخوة، لا يحرم على ابن زنجية لغية نكاح ابن الخليفة الهاشمي، وهذا يتفق مع النصوص العامة والخاصة، ومنها النص النبوي : ( إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس بنو آدم، وآدم من تراب، مؤمن تقي، وفاجر شقي، لينتهينّ أقوام يفتخرون برجال، هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها .

ليس من الشريعة أن يحكم المجتمع الصومالي على بعض القبائل الصومالية عزلة اجتماعية، أو أن يتم إقصاؤهم من الوضع الاجتماعي بسبب تاريخ مزعوم، أو بسبب حرف معينة تتخصص في امتهانها جماعات معينة، تلك عنصرية يجب تصفية أفكارها من الواقع، ذلك لأن كل علم سلوك ناتج من عالم فكر معين، فالفكر الخاطئ يصنع سلوكا خاطئا، وليس من السهولة محاربة السلوك الخاطئ مع وجود الأفكار الخاطئة .

إن الأفكار الخاطئة في الفقه هو أن امرأة من مجموعة معينة ليست كفؤة لرجل من مجموعة أخرى، ذلك لأن وضعية الفرد في المجتمع ليست كما ينبغي، والسبب هو أن حرفته رديئة، أو قبيلته وضيعة، كل ذلك يتطلب إلى مواجهة فكرية تنطلق من القيم الدينية والحضارية للأمة، وليس من العقل أن نتمسك بآراء فقهية مناقضة للقيم، وتجاوزها الزمن، فالمسلم يجب أن يعيش وفق القيم الثابتة لدينه، وأن يكون متسقا مع الزمن والحداثة .

في الدستور الصومالي مسألتان في غاية  في الوضوح، وهما :

  1. في المادة الأولى، وفي الفقرة الثالثة: الإسلام دين الدولة .
    في هذه المادة من الدستور الصادر بعد الاستقلال من الاستعمار أن هوية الدولة واضحة، وهي الإسلام، وما زالت الدساتير التي جاءت بعدها تؤكد هذا البعد، ولكن يجب أن يفهم العلماء والدعاة على أن الإسلام لا يعنى رؤية فقهية، ولا رأي مذهب، بل هو الإسلام في عقيدته الكلية، وشرائعه العامة، ومقاصده الكبرى .
  2. في المادة الثانية : كل المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات أمام القانون، لا فرق بينهم من حيث العنصر أو الأصل القومي، أو المولد، أو اللغة، أو الدين، أو الجنس، أو الحالة الاجتماعية، والاقتصادية والرأي .
    تقرّر هذه المادة قيمة المساواة الواردة في الدين كقيمة عليا، والواردة في كل المواثيق الدولية، والمعاهدات العالمية، ومن هنا يجب أن تتسق الأفعال الواردة من البشر في عقودهم، ومعاملاتهم المختلفة مع النصوص الدينية الضابطة للحياة، والمواد الدستورية الحاكمة في تصرفات أفراد المجتمع في الدولة الحديثة .

نحن مع الكفاءة في الدين، ولكننا نرفض الكفاءة في النسب، فلا وجود لفرد فوق أحد، ولا لقبيلة لها وضع معين، فالناس كل الناس من بني آدم، وآدم من تراب، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، والتقوى مسألة غيبية، والغيب بيد الله، ولكننا نحن نأخذ بالظواهر، والله يتولى السرائر، وهو علاّم الغيوب، ويعلم السر وأخفى .

المراجع :

  1. أحكام أهل الذمة، ابن القيم .
  2. إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم
  3. بدائع الصنائع للكاساني .
  4. المغنى لابن قدامة .
  5. نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، الرملي .
  6. بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ابن رشد .
  7. المحلى، ابن حزم الظاهري .
  8. قواعد الأحكام في مصالح الأنام، العز بن عبد السلام .
  9. الدستور الصومالي الصادر عام ١٩٦٠م

عبد الرحمن بشير

الشيخ عبد الرحمن سليمان بشير من جمهورية جيبوتى، داعية، ومثقف ، وناشط سياسي، وباحث فى الشؤون الإجتماعية، وقضايا القرن الأفريقي، خريج كلية الشريعة والقانون، عمل فى السلك التعليمي، والقضائي، والإنساني، ومارس الخطابة منذ نعومة أظفاره، وما زال، وله مقالات حول الدين والسياسة والفكر، ويعيش الآن فى كندا، ويعمل فى رفع الوعي فى القرن الأفريقي، والجالية الإسلامية والصومالية والجيبوتية فى المهجر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى