مقالات

بدعة الكتاب الاسلامي وتراجع الوعي الفكري

 

عند بزوغ نجم الحركات الدعوية في العالم الاسلامي برزت معها ظاهرة الكتاب الاسلامي، ويعنى ذلك حث الأعضاء في تلك الحركات على اقتناء الكتب الاسلامية والانكباب على قراءتها والابتعاد عما يرونه كتبا غير “إسلامية” ألفها مشركون أو علمانيون. و تعريف الكتاب الاسلامي لدى تلك الجماعات هو الكتاب الذي ألفه كاتب من أبناء الحركة الاسلامية ويكون الحكم للكتاب أو عليه مرتبطا بالمؤلف لا بجودة مادة الكتاب وفائدته ولا بحسن طرح الموضوع وجديته، فكل كتاب كتبه اخ “إسلامي” يجب اقتناؤه وقراءته ولو كان عديم الجدوى ولو لم تلق من قراءته بفائدة ذي بال، وكل كتاب ألفه كاتب غير “إسلامي” كافر أو زنديق أو علماني ينبغي الحذر منه وينصح بعدم قراءته ولو كان الكتاب يحمل في طياته دررا وكنوزا ثمينة وذلك ايمانا واحتسابا لوجه الله ورغبة في العصمة من الضلال والانحراف.

بدأت الظاهرة أولا بالاقتصار على الكتب الاسلامية بصفة عامة ثم تطورت الى الاقتصار على مؤلفات الجماعة الاسلامية التى ينتسب اليها الشخص؛ فالجماعات السلفية كانت ترى في إصدارات جماعة الإخوان خطرا على العقيدة الصحيحة ويتهمونهم بتمييع الدين لأغراض سياسية وتحذر أعضاءها من الاقتراب من  الأفكار الاخوانية، وفي المقابل، يرى الأخوان في مصنفات السلفية سببا للشقاق والنزاع بين المسلمين من أجل قضايا خلافية فرعية في فروع الفقه والعقيدة. وبعد تشعب جماعات السلفية والاخوانية آلى شعب كثيرة تطور الأمر الى مستويات أخرى أكثر شراسة وبدأت كل فرقة تلعن أختها وتحذر من مؤلفاتها حذارهم من الجرباء.

بدعة الكتاب الاسلامي كانت سببا في إفقار الفكر الاسلامي بوضعها حواجز فكرية بين الأفكار الإنسانية وخلق غيتوات أيديولوجية شعارها “نحن والآخر” مهمتها تضخيم الذات وتحقير الاخر لا البحث عن الحقيقة. وقد يكون ذلك مفهوما في خضم الصراعات الأيديولوجية إبان الحرب الباردة في نهابة القرن العشرين وظهور أيديولوجيات عالمية تتنازع في إثبات وجودها وصلاح مشروعها لإيجاد حلول جذرية لمشكلات العالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية. قد يكون ذلك مفهوما في هذا السياق ولكن الخطر أتى من حيث ألبس هذا الصراع لباسا دينيا وأخذ الجدال الايديولوجي منحى دينيا عند “الإسلاميين” مما صبغ المناقشات الفكرية بصبغة دينية صارمة لا تقبل الخلاف ولا تحتمل الرأي الاخر، وأصبح الخلاف في الرأي خلافا في الدين ومن ثم أخذ الحكم على المخالف بعدا دينيا بالكفر أو الردة أو الفسق.

استراتيجية الغيتوات والتخندق الحزبي ربما ساعدت الإسلاميين في صراعهم مع الايديولوجيات المعاصرة ولكنها من ناحية أخرى كانت وبالا على الوعي الفكرى والثقافي للشباب. قراءة الكتب الاسلامية فقط واهمال ما عداها من الأفكار الانسانية يفضي إلى سوء تغذية قد تودي إلى الموت. فالعقل الإنساني مثل جسمه، فكما أن جسم الإنسان يحتاج إلى عناصر غدائية مختلفة لنموه الطبيعي فكذلك عقل الإنسان يحتاج إلى عناصر فكرية مختلفة لنموه الطبيعي، فاذا اقتصر الجسم على عنصر غداء واحد يصاب بسوء التغذية ومن ثم الضعف وربما الهلاك فكذلك اذا اقتصر العقل على قراءة فكر واحد يصاب بالفقر وضيق الأفق ومن ثم الجمود وربما الموت السريري.

ولو فكّر أجدادنا وأسلافنا العظام كما يفكر الاسلاميون اليوم لما شيدوا حضارة زاهرة نشرت النور والعلم في أرجاء الدنيا. فالحضارة الإسلامية أساسها العلم، والعلم عند علماء المسلمين الأوائل ليس العلم الشرعي كما يعتقده بعض ” الإسلاميين” اليوم وانما العلم عندهم بمعناه الواسع القرآني الذي يشمل جميع العلوم ( إنما يخشى الله من عباده العلماء) فكلما كان الانسان أعلم كانت خشيته لله أعمق. ولم يجد المسلمون أيضا حرجا في ترجمة تراث الأولين من علوم اليونان والفرس وأفادوا منها وشرحوها وأضافوا إليها ابداعاتهم وشروحهم وصاروا أساتذة للعالم في جميع فنون العلم وعباقرة لا يشق لهم غبار في ميدان التأليف والبحث فكان منهم العباقرة في الفلسفة وفي الكيمياء و الفيزياء وفى الرياضيات وعلوم التاريخ والجغرافيا.

فقلّما ترى في عصر انحطاطنا فقيها فيلسوفا أو ففيها أديبا أو ففيها مؤرخا أو رحالة أو غير ذلك من العلوم ولكن كان ذلك مألوفا في عصور حضارة الاسلام. فالإمام الشافعي مع وضعه لقواعد أصول الفقه وإحاطته بعلوم الشريعة كان عالما لغويا أديبا شاعرا، وحجة الاسلام الغزالي مع تبحره في علوم الشريعة درس الفلسفة وتعمق فيها واستطاع ان يقف موقف الندّ لخصومه في مناقشة الآراء الفلسفية عن علم وليس عن هوى كما يفعله كثير منا اليوم، وكذلك شيخ الاسلام ابن تيمية تعمق في دراسة الفلسفة والمنطق مع إمامته في علوم الدين، ومع انه حذّر من دراسة تلك العلوم فانه مما لا ريب فيه أفاد من هذه الدراسة فائدة كبيرة اثْرت معارفه وعمّقت مناقشاته وبحوثه الكثيرة. وأستاذ المفسرين الطبري مع طول باعه في التفسير فانه مؤرخ كبير وكتابه في التاريخ مصدر لا يستغني عنه كل من أراد الإلمام بالتاريخ الاسلامي، وفيلسوف الفقهاء ابن رشد مع فقهه الواسع فانه فيلسوف الفلاسفة وشارح كتب أرسطو الفلسفية وأستاذ الشرق والغرب في الفلسفة. وهذا غيض من فيض لنماذج من علمائنا الموسوعيين في الحضارة الاسلامية.

لم يكن العلماء المسلمون يكتفون بدراسة الفلسفة والمنطق وعلوم الأمم الأخرى وإنما تجاوزوا ذلك إلى دراسة الكتب الدينية للأمم الأخرى؛ فيناقشون القساوسة والكهنة عن علم ويردون شبهاتهم في العقائد من خلال نصوص كتبهم. وهذا القرافي الفقيه الكبير يردّ على شبه اليهود العقائدية بنصوص يقتبسها من التوراة مما يدل على أنه كان على اطلاع واسع بكتاب التوراة كما ذكره الشيخ حسن العطار في حاشيته على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع. ونودّ ان ننقل إليكم ما سجله الشيخ حسن العطار لفائدته في هذا الموضوع حيث قال: “مَن تأمَّل ما سطَّرناه وما ذُكِر من التصدي لتراجم الأئمة الأعلام، عَلِم أنهم كانوا من رسوخ قَدَمهم في العلوم الشرعية والأحكام الدينية لهم اطلاع عظيم على غيرها من العلوم، وإحاطة تامة بكلياتها وجزئياتها، حتى في كتب المخالفين في العقائد والفروع، يدل على ذلك النقل عنهم في كتبهم والتصدي لدفع شُبَههم، وأعجب من ذلك تجاوزهم إلى النظر في كتب غير أهل الإسلام؛ فإني وقفت على مؤلَّف للقرافي ردَّ فيه على اليهود شُبَهًا أوردوها على الملة الإسلامية لم يأتِ في الرد عليهم إلا بنصوص من التوراة وبقية الكتب السماوية، حتى يظن الناظر في كتابه أنه كان يحفظها على ظهر قلب، ثم هم مع ذلك ما أخلوا في تثقيف ألسنتهم وترقيق طباعهم من رقائق الأشعار ولطائف المحاضرات”

وهذا الباقلاني الإمام المتفنن شيخ السنة يذكر أنه كان يناظر القساوسة في أمور العقائد فسأل يوما أحد مناظريه من رجال الدين المسيحيين كيف ولدك؟ فغضب القس وقال له لماذا تسألني عن ذلك وانت تعرف أننا معشر الكهنة ننزه أنفسنا عن اتخاذ الأولاد، فاجابه عجبا لكم تنزهون أنفسكم عن اتخاذ الأولاد وتجعلون لله ولدا!

لن يكون للمسلمين اليوم نهضة من كبوتهم إلا بنهضة علمية شاملة ينهلون من المشارب الفكرية الإنسانية المختلفة يستوعبونها أولا ثم ينتقون منها ما هو صالح لنهضتهم المرجوة. الفكر الإنساني انتاج عام للإنسانية جمعاء ساهمت فيه الحضارات البشرية المتعاقبة بقيادة رحلة الانسان في البحث عن حياة أفضل، والعزوف عن هذا الإنتاج أو التقليل من شأنه لأغراض أيديولوجية يعود بالضرر الأكبر على صاحبه ولا يضر الفكر الإنساني فى شيء من ذلك. الكتاب الإسلامي في أدبيات الجماعات بدعة لا بد من تجاوزها لاطلاع على ابداعات البشرية بغض النظر عن دينها وأعرافها ومن ثم توسيع آفاق تفكيرنا للوصول إلى نهضة علمية تكون أساسا للمشاركة في الانتاج الفكري البشرى ومن ثم تدشين حضارة إسلامية زاهرة قائمة على العلم.

 

عبد الواحد عبد الله شافعي

كاتب صومالي من مواليد بورعكر حاصل على درجة الليسانس في الدراسات الإسلامية واللغة العربية من كلية الدعوة في ليبيا في عام ١٩٩٤. نال دبلوم ماجستير في اللغة العربية وآدابها من الكلية نفسها في عام ١٩٩٦. حصل على ماجستير في اللغويات وتعليم اللغات الأجنبية من جامعة لندن متروبولتان في بريطانيا في عام ٢٠١٦. يعمل في خدمة الجاليات المسلمة في بريطانيا. له مقالات وبحوث فكرية وسياسية منشورة في الصحف والمواقع العربية. يهتم بالثقافة وقضايا الفكر السياسي عامة والإسلامي خاصة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى