السياسةالصومالتحليلاتمقالاتمقالات الرأيوجهات نظر

تجربة التحول الديموقراطي بولاية بونتلاند : بصيص أمل في نهاية النفق!

مقدمة 

في خضم الصراعات الدموية التي كانت دائرة في الصومال، واستحالة توحيد صف الصوماليين في إطار حكومة مركزية تتولى شؤون البلاد بعد فشل مؤتمرات السلام والمصالحة التي جرت في الداخل والخارج، وفي ظل أجواء الفوضى التي نتجت عن الحرب الأهلية، قرر السياسيون والمثقفون وشيوخ العشائر في المناطق الشمالية الشرقية في الصومال، تأسيس كيان سياسي يلبي المتطلبات الخدمية للمجتمع، ويحافظ على تماسكهم الداخلي في عام 1998م أطلق عليه اسم بونتلاند وهو المسمى القديم للصومال ويعني آرض البخور. وتولي حكمها العقيد عبد الله يوسف أحمد كأول حاكم للولاية في محاولة للوصول إلى صومال فيدرالي موحد، وأصبح يوسف لاحقا رئيسا للجمهورية من  2004 – 2008 م.

ويمكن تلخيص مهام الكيان الجديد بتوفير الخدمات الأساسية، وتثبيت الأمن، وبناء مؤسسات دولة في المناطق التي توحدت تحت مظلة (بونتلاند) والسعي وراء بناء دولة صومالية فيدرالية موحدة من خلال هذا النظام. وقد نجحت الفكرة رغم بعض الإخفاقات التي واجهتها على مدار وجودها في المسرح السياسي الصومالي المضطرب، ككيان سياسي يمثل شريحة واسعة من المجتمع الصومالي.

ظروف التأسيس

يحكي الزعيم الراحل العقيد عبدالله يوسف أحمد والرئيس الصومالي السابق – رحمه الله- في مذكراته المدونة في كتابه ” النضال والمؤامرة” عن الظروف والمراحل التي مرت بها الولاية في تأسيسها ويمكن تلخيصها فيما يلي:-

١-مرحلة إنعقاد مؤتمر شيوخ وعقلاء بونتلاند:

وتناول ذلك في فصل إرهاصات ميلاد ولاية بونت لاند، وذكر أنهم قامو بنتنظيم مؤتمرمع عقلاء القبائل التي تسكن المحافظات الخمسة وهي” سول،سناغ،بري،نغال ومدغ” ومديرية بوهودلي. وشارك في هذا المؤتمر 29 من أشهر شيوخ العشائر في هذه المحافظات. وتقرر في هذا المؤتمر تأسيس حكومة ولائية صومالية تضم هذه الأقاليم الخمسة لحفظ الأمن ورعاية شؤون المجتمع ، وجرى عقد مؤتمر عام يجتمع فيه مندوبوا هذه المحافظات لإجازة الوثيقة التأسيسية للولاية.

٢-مرحلة الإعداد للمؤتمر العام لممثلي العشائر

ذكر العقيد -رحمة الله عليه- أن 600-700  مندوبا شارك في المؤتمر لمدة شهر في مدينة غرووي في ظروف قاسية وبادرت اللجان الفنية للمؤتمر بعملها تطوعا حيث قامت باعداد وثيقة دستورية بإمكاناتهم الذاتية المتواضعة، واستعانوا بالخبراء وكل من له رأي وفكرة، وقدموه في موعده المحدد، واحتاجوا لمبلغ قدره مليون دولار لتغطية تكاليف المؤتمر، واستحال علىهم جمع هذا المبلغ بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تمر بها الولاية في تلك الأيام، ومما زاد الطين بلة رفض الهيئات الدولية والمانحين تمويل المؤتمر بإيعاز من أرض الصومال، وختم بالقول ” توكلنا علي الله واتفقنا مع أصحاب الفنادق والبيوت والمطاعم أن نسدد لهم ما نستطيع من التكاليف وأن ندفع الباقي بعد ثلاثة أشهر”

٣-مرحلة التنفيذ :

وكانت مرحلة ساخنة وحافلة بالنقاشات الحرة للدستور وحسم  الأمور المصيرية، وبسبب ضغوط العمل يومها أضطر العقيد أن يذهب إلي نيروبي بسبب مضاعفات الجراحة التي أجريت له بزارعة كبده قبل عام من انعقاد المؤتمر. فأوصي القادة القائمين علي أمر المؤتمر بمواصلته  والعمل ريثما ينتهي من تنفيذ أهداف المؤتمر مهما تؤول إليه حالته الصحية.

منعطفات ومطبات خطيرة في مسيرة بونتلاند:

مرت بونتلاند بمنعطفات تاريخية خطيرة أصعبها مرحلة 2001 م والخلاف الدستوري الذي انتهي بمواجهات عسكرية دامية بين العقيد عبدالله يوسف أحمد والعميد جامع على جامع، الذي تصدر المشهد السياسي إثر تعيين البرلمان له حاكما للولاية خلفا للعقيد عبدالله يوسف بعد انقضاء مدته الدستورية، مما عكر الأجواء في مناطق بونتلاند، وانتهى الخلاف بإتفاق سلام تاريخي مشرف بين العقيد عبدالله يوسف والجنرال عدي موسي وذلك في مايو سنة 2003. هذه المواجهات العسكرية تُعتبر نكسة وانحرافا واضحاً عن الأهداف التي أسست من أجلها الولاية، وتناسي المتصارعون في حلبة السياسة أطماعهم الذاتية وغلبوا قيمة السلام والاستقرار والحوار كوسيلة لتسوية الخلافات.

تجربة التحول الديموقراطي إلى نظام التعددية الحزبية

استند النظام الأساسي للولاية علي شيوخ العشائر التقليديين الذين يختارون أعضاء  البرلمان المكون من 66 عضوا يمثلون العشائر المكونة للولاية بموجب محاصصة معينية والتي لا تزال تثير الجدل كلما يحين الاستحقاق الانتخابي، وكان من المفترض  أن يتم الانتقال من هذه المحاصصة العشائرية إلي النظام المدني الديموقراطي تدريجيا ولكن الحكام الذين تعاقبوا علي رئاسة الولاية لم يتحركوا  بهذا الاتجاه لتحقيق هذا الحلم الذي راود الشعب بشكل جدي باستثناء محاولة الحاكم الأسبق للولاية عبدالرحمن فرولي والتي تعثرت بسبب غياب التوافق والتشاور المجتمعي، وخلاف حول الدستور والقوانين الانتخابية، وافتقار الهيئة الانتخابية للثقة والاطمئنان من قبل الفاعلين السياسيين، وبسبب ضعف التوعية وتثقيف الناخبين، وعدم تسجيل الناخبين، وغياب آليات فض النزاع، وتوجس البعض من التحول برمته مما قاد التجربة للفشل بعد اعتراض بعض العشائر على التحول مما دفع النظام لإلغاء إجراء الانتخابات في اللحظات الأخيرة خشية العنف والانزلاق لأتون حرب أهلية.

ويبدو أن النظام الحالي بقيادة الحاكم سعيد عبدالله دني أظهر جدية مبكرة نحو النظام الديموقراطي، ورغبة في إسدال الستار على النظام المبني على المحاصصة العشائرية البغيضة رغم ما تنطوي عليه هذه الخطوة من تحديات جمة، وذلك في أول عام من فترته الرئاسية تنفيذا لوعوده في حملته الانتخابية وذلك بتدشين لجنة انتخابية انتقالية تحظى بثقة أصحاب المصلحة، وتخصيص ميزانية  رمزية للتحول الديمقراطي، والانخراط المبكر في تأسيس جمعية سياسية بقيادته، مع تقديم دعم محدود للجمعيات السياسية الأخرى لدفع عجلة التحول الديمقراطي.

الانتقال من الانتخابات غير المباشرة إلى الانتخابات المباشرة

رغم كل المآسي والمرارات السياسية وعدم الاستقرار الأمني والتدهور الاقتصادي إلا أن الصوماليين بعد الحرب الأهلية اتفقوا على مبدأ أساسي وهو التدوال السلمي للسلطة، وبصرف النظر عن شكل وطبيعة وحجم هذا الانتقال السلمي للسلطة إلا أنه حدث انتقال سلس للسلطة سواء علي المستوى الفيدرالي أو الولائي؛ فعلى المستوى الفيدرالي منذ العام 2000م تعاقب على رئاسة البلاد 5 رؤساء، أما على مستوى الولايات فحدث ولا حرج فصوماللاند نموذج ناجح في إجراء الانتخابات البلدية والتشريعية والرئاسي بشهادة المراقبين الدوليين،أما في بونتلاند وإن لم تجري فيها انتخابات مباشرة إلا أنها تتميز بإجراء الانتخابات الرئاسية في موعد محدد وهو 8 يناير من كل موسم انتخابي وتسعى حاليا للانتقال للانتخابات المباشرة تدريجيا وذلك بداية في الانتخابات البلدية وهي أساس الديموقراطية والانتخابات في كل بلد.

قانون الأحزاب والجمعيات السياسية في بونتلاند 

يعتبر هذا القانون من أهم قوانين عملية التحول الديمراطي في بونتلاند، إذ يسهل عملية تأسيس الجمعيات السياسية وفق جدول زمني تحدده الهيئة الانتقالية للانتخابات. وهو مزيج من الإجراءت الصارمة والبسيطة التي تمكن الساسة والمثقفين والشباب ومختلف شرائح المجتمع على تأسيس جمعية سياسية. فمن جهة البساطة، يحق لكل المواطنين تأسيس جمعية سياسية وتقديمها للهيئىة الانتخابية متضمنة عدد محددا من الخطابات والوثائق، كالهيئة التأسيسية، وخطاب طلب تأسيس الجمعية وغيرها. ومن حيث الصرامة، تلزم الهيئة الانتخابية على الجمعيات التي قدمت وثائقها على فتح مكاتب في 6 محافظات على الأقل، وعقد المؤتمر العام للجمعية السياسية وانتخاب الهياكل الادارية المختلفة، واجازة النظام التأسيسي، وتقديم سجل أعضاء الجمعية في 6 محافظات على الأقل، ثم يتبع كل هذا الاجراءت تحري رسمي من قبل الهيئة يتم المنح بموجبه  شهادة رسمية للجمعية السياسية. ووفقا لهذه الإجراءات تم تسجيل 10 جمعيات سياسية واندمجت إحدى الجمعيات مع جمعية أخرى وأصبح العدد الإجمالي للجمعيات السياسية المعتمدة 9 جمعيات سياسية تخوض اليوم غمار تجربة الانتخابات البلدية والمقرر إجراؤها في 25 أكتوبر 2021.

تتحول الجمعيات السياسية التي تحتل المراتب العليا الثلاث في الانتخابات البلدية إلى أحزاب سياسية رسمية في الولاية لمدة عشر سنوات، وتشكل مع الحكومة والبرلمان الهيئة الانتخابية المستقلة للانتخابات، إذ أن الهيئة الحالية هي هيئة انتقالية شكلتها الحكومة والبرلمان معا، وينتهي دورها مع انتهاء الانتخابات البلدية، وتشكل الأحزاب الثلاثة المعتمدة المفوضية المستقلة للانتخابات.

تجربة الجمعيات السياسية

وبعد رحلة طويلة من التشاور والعمل، أكملت الهيئة حزمة القوانين الانتخابية مع توفير مساحة واسعة للنقاش مع أصحاب المصلحة لتحقيق التوافق، وأسست الجمعيات السياسية، وحددت الحدود الإدارية للمناطق من قبل وزارة الداخلية، وتم تسجيل الناخبين في المناطق التي تجري فيها الانتخابات المبكرة، وانطلقت أكبر حملة توعية للناخبين، وتوسعت مكاتب الهيئة وموظفوها، وتستمر الحملات الانتخابية للجمعيات السياسية في بونتلاند في المناطق التي تجرى فيها الانتخابات المبكرة ( قرطو وأيل وأفين ) .

وبدأ حراك الإقناع وعرض البرامج وحشد الناس بكل الطرق والوسائل . وقريبا بإذن الله سنشهد أول انتخابات مباشرة للبلديات لتدشين مرحلة جديدة من التعددية الحزبية . هناك 9 جمعيات سياسية تتنافس على ثقة الشعب ، ويحتل صدارة هذا الحراك  الشباب والمرأة . ولا غرو في ذلك ، إذ تشكل المرأة 50 % من المسجلين للمشاركة في هذه الانتخابات . وتشكل الفئات العمرية (18-40) الشابة 70% من عموم المسجلين في الانتخابات . أكثر ما يسعدني في المشهد حضور الشباب بقوة لصناعة هذا الحدث التاريخي ، وبدأُ الاهتمام بمجالس البلديات التي ترتبط بشكل وثيق بخدمة المجتمع ورفاهيته . متفائل جدا بروح الشباب ، وحماسهم ، ودافعيتهم ، وإبداعهم ، فهم أمام فرصة للتدرب والبروز في الشأن العام ، وخدمة المجتمع ، ومن جانب آخر يستطيعون الابداع وصناعة الأحداث .

وعد التغيير !

منذ زمن طويل كان لدي اهتمام خاص بتطوير النظام السياسي في بونتلاند ، والانتقال من مرحلة اكتساب الشرعية بصورة تقليدية لا تتماشى وأحلام هذا الجيل . مرت تجربة التحول الى التعددية الحزبية بعدة مراحل ، استشرفت فشل هذه التجربة في تقرير نشره مركز الشاهد للبحوث والدراسات الاعلامية في نوفمبر، ٢٠١٢ م. وكنت من المتفائلين بفوز الحاكم عبدولي غاس وقدرته على تحريك عجلة التغيير في النظام السياسي، لكن في ظل حكمه خسرت التجربة الاهتمام والرغبة السياسية، واستمرت بخطوات بطيئة انتهت باستقالة لجنة الانتخابات عام ٢٠١٩ ، وانطلاق التجربة الحالية لتحقيق الحلم الطويل.

وحظيت بفرصة أن أكون شاهد عيان للتجربة من موقع المسؤولية والقيادة كعضو في اللجنة الانتقالية للانتخابات في بونتلاند، مطلعا على كثير من خلفيات أعمالها، وكواليس أنشطتها المختلفة، مما دفعني بكتابة مقال قصير يتفاءل بالتجربة في جريدة (كاه بري) منتصف سنة ٢٠٢٠ م تحت عنوان : انطلاق تجربة تعدد الأحزاب في بونتلاند: سراب أم حقيقة؟ وبعد سنة ، ها نحن على بعد خطوات من تحقيق هذا الحلم الجميل .

إن إيجاد صيغة تمزج بين العصرنة ومواكبة والتقدم التكنولوجي والحفاظ علي التراث الشعبي والخصوصية الثقافية للشعب الصومالي لاكتساب الشرعية السياسية في التمثيل من شأنها اعفاء شيوخ العشائر من عبء ثقيل وإعطاء الشعب فرصة تقرير من يمثله في مجالس الدولة الدستورية وذلك لأن نظام المحاصصة لا يلبي معايير العدالة المطلوبة ولا يفرز  الكفاءات القيادية؛ بينما النظام الانتخابي يعطي حق الانتخاب لعموم الشعب، ومع ذلك فإننا نؤمن بأن هذه التجربة ليست عصا موسى ولا فانوسا سحريا ولا نستطيع الجزم بأنها ستحل كل مشاكلنا، لأن ذلك يتطلب وقتا طويلا وتغييرا أيضا في عوامل أخرى تجرنا للخلف والتخلف، والتي يعج بها سياقنا الصومالي. لكن الجميل في التجربة، ما نراه اليوم من المشاركة الواسعة للشباب، والفرص القيادية التي وفرتها لهم التجربة، وحراكهم المبدع، والمساحة التي حصلت عليها المرأة في المشاركة في مجالس البلديات، وكذلك الفئات المجتمعية التي شبعت ظلما وإقصاء منذ زمن طويل .. وها هي قوائم المرشحين للجمعيات السياسية التي نشرت اليوم تشهد على هذا التحول التاريخي .

الخاتمة 

التعددية الحزبية هي حلم المجتمع الصومالي وأرى أنها الوسيلة الأضمن للإصلاح السياسي في بونتلاند إن تكللت التجربة بالنجاح، وتجاوزت التحديات التي تتمثل بضعف التمويل وتثقيف الناخبين وجدية الجمعيات السياسية، والرغبة السياسية في التحول من جميع الفاعلين السياسيين، وهناك مؤشرات كثيرة تدعوا للتفاؤل في تحقيق التحول، وهناك تحديات ترتبط بالسياق الصومالي المضطرب والمتوجس عن التغيير والتحول من المألوف إلى استشراف المستقبل، مع ما يرافقه من تحديات اقتصادية، واجتماعية. على أية حال، التحول بالنسبة لبونتلاند مفصلي لإرساء استقرار سياسي واجتماعي يستجيب لأحلام المجتمع نحو غد أفضل في واقعه المعيشي والتنموي والأمني.

عبد الله فارح مري

كاتب وناشط ومحلل سياسي له العديد من المقالات، عضو في اللجنة الانتقالية للانتخابات في بونتلاند

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى