ثقافة واجتماعمقالات الرأي

حين يختل الميزان.. تضيع الحقائق !

وجد مالك بن نبي بعد دراسات عميقة في سَنَن الحياة، ومسارات الدول، وقيام الحضارات، وسقوطها قاعدة هامة، وهي أن الدول الناجحة، وكذلك الشعوب الناجحة تبدأ مسارها من عالم الأفكار إنتاجا، وتصحيحا، وتعديلا، ودفاعا، وحماية، ثم تهتم ببناء الأشخاص وفق قيم الأفكار، وبعد ذلك يصنع الأشخاص الأحداث والأشياء.

بدأ رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام دعوته في عالم الأفكار والعقائد والتصورات، وحرك العقول البليدة، وحارب الأفكار الميتة، والتي تميت الناس، وأقنع الناس بأفكار جديدة، ولكنها تتميز بأنها حية، وتحيي الناس، ومن هنا بدأت الأمة تقلع بقوة، وترفض الخرافات، ولا تقدس الأشخاص، والأصنام، وتجاوزت مرحلة الطفولة بعقل راشد، وفكر مستنير.

في الغرب تجربة رائدة، وهي التجربة التي بدأت في عصر التنوير؛ حيث رفض مفكرو النهضة كل المقولات القائمة على التخمين، والبعيدة عن منطق العقل، فطرح المفكرون ولأول مرة الأسئلة العميقة حول الفكر والحياة، والمبدأ والمصير، ونتج من هذه التساؤلات تجاوز خرافات الدين عندهم، وبداية المرحلة العقلية والتي انتهت بتبني النظام العلماني، فنتج من ذلك مشروع الحضارة الغربية، والحداثة الغربية.

في اليابان تجربة متميزة، وهي التجربة التي بدأت في بداية القرن العشرين؛ حيث طرح مؤسسو المدرسة اليابانية في النهضة سؤلا مفاده، أين مكمن الضعف في اليابان؟ وأين مكمن القوة في أوربا؟ سؤال فكري عميق، ومن المعروف، أن الأمة قادة الفكر في المسلمين طرحوا السؤال ذاته، ولكن إجابة اليابانيين مختلفة عن إجابة المسلمين، فكانت النتيجة أن تحققت النهضة في اليابان، والتخلف عند المسلمين .

إن الأمم المتقدمة تعرف الأولويات في فقه الحضارة، وفى فقه التغيير، ولا يمكن لشعب أن يكون له مكان تحت الشمس بدون أن يقوم بتغيير حقيقي في عالم الأفكار، ولا تمكن لأمة أن تنهض، أو أن تصنع حضارة بدون تغيير، ولا تغيير بدون تغيير حقيقي في عالم المفاهيم والأفكار، ولهذا نجد الجامعات الغربية تنتج الفكر بشكل دائم، بينما نحن في الجامعات الشرقية نعيش التجربة التاريخية، ولا ننتج جديدا في عالم الأفكار.

تعيش اليوم البشرية مرحلة متقدمة فى الثورة الفكرية، بل هناك خوف من تجاوز الحالة الإنسانية برمّتها، ولكن قلّ أن تجد من المفكرين فى عالم المسلمين من يهتم بذلك، فكان الدكتور عبد الوهاب المسيري – رحمه الله – مهتما فى هذا الموضوع غاية الاهتمام، وتناول في كتبه نهاية الإنسان، وبداية الإنسان الآلي، ولكن ما دام هناك قحط في عالم الأفكار، فإن جل الأحاديث في عالم المسلمين تكون فى عالم الأشخاص، وليست في عالم الأفكار.

هناك سؤال، ما هي الأفكار التي أوجدت حكام العالم الإسلامي ؟ والسؤال بصيغة أخرى ما هي البيئة التي أنتجت هذه النوعيات السيئة من الحكام ؟ وهناك سؤال آخر، لماذا هؤلاء الحكام في العالم العربي والإسلامي فقط؟

تحدث مالك بن نبي وجود ظاهرة غريبة في الكون، وهي وجود إنسان قابل للتقدم، وإنسان قابل للتخلف، فقد يكون الإنسان غير مسلم، ولكنه قابل للتقدم، وقد يكون الإنسان مسلما، ولكنه قابل للتخلف، ولهذا فالرجل هنا يبحث عن أسباب، وأفكار، وأشخاص، وأحداث، وأشياء، ولا يبحث عن ضمائر الناس، وعن عقائد الناس، ذلك لأن اليابان تقدمت وهي بوذية، والولايات المتحدة تقدمت وهي علمانية بروتستانية، وفرنسا وألمانيا تقدمتا، وهما من العالم المسيحي كذلك، وتحقق إسرائيل نوعا من التقدم فى بلاد العرب، ولكن المسلمين ما زالوا فى عالم التخلف وهم ينتمون إلى رسالة محمد عليه الصلاة والسلام .

لقد غاص مالك بن نبي إلى العمق بحثا وتنقيبا، وطرح الأسئلة الهامة في هذا الميدان، ولكنه خالف العرف، فهو لم يأخذ الجواب السطحي، وهو أن المسلمين تخلفوا، لأنهم تَرَكُوا الدين، فهو يرى أن هذا الجواب ليس علميا، بل هو جزء من التخلف، والسبب هو أن غير المسلمين تقدموا بدون دين، إذا أين الخلل؟

ليس الخلل في عقيدة الناس، بل الخلل فى أفكار الناس، وفى وجود مرض القابلية للتخلف، وهو أن عالم التخلف يعيش مع عالم الأشخاص والأشياء، ولهذا نجد اليوم أن أجمل المدن في غالب الأحيان في بعض الدول الخليجية، وأن أفضل الأشياء فيها، ولكنها لا تصنع بعد عالم الأفكار، بل هي فقيرة في ذلك .

إن من السهولة أن تقتني أشياء الحضارة، ولكن من الصعوبة بمكان أن تنتج عالم الأفكار الخاصة بالأمة، ومن السهولة بمكان أن تكون مدننا جميلة، ولكنها بلا خصوصية، وأن تكون لدينا أجمل الساعات، ولكننا لا نهتم بالوقت، وأن تكون لدينا مطاعم فاخرة، وجامعات كثيرة، ولكن لا ننتج شيئا ذَا بال.

أليس من العجب أن نمتلك عشرات مئات الملايين من المواشي، ولكن الناس يموتون جوعا وفقرا، ويخرجون من الحياة مسرعين، والسبب هو أننا نعيش في تخلف في عالم الأفكار، بينما هولندا لا تملك سوى ثلاثة ملايين من الأبقار، ولكنها تنتج الحليب بأنواعها، وتصدر إلى العالم اللحوم الطازجة، والسبب هو أنها متقدمة في عالم الأفكار، فلا تبحثوا شيئا آخر، هناك في هولندا تقدم في عالم الأفكار، وهذا العالم ينتج عالم الأشخاص، والأشخاص هم الذين ينتجون الأشياء، ويصنعون الأحداث، وبالتالي هذا التخلف ينتج أشخاصا لديهم قابلية للتخلف، وبالتالي فلا يحسن الناس التعامل مع الأشياء والأحداث.

تمثل هولندا نموذجا في استغلال الثروات بشكل إيجابي، وتمثل بلداننا نموذجا سلبيا فى استغلال الثروات، وهما فقط نموذجان، فالذين يدورون حول الأشخاص حديثا، أو عبادة، أو تعليقا للمستقبل، فلا مستقبل لهم، والذين يدورون حول الأفكار، فهم وحدهم يصنعون المستقبل .

فى بلادنا اختل الميزان، ومن هنا نجد أن أهم شيء عند المواطن هو الحصول على الأشياء، وهو لا يحسن التعامل مع أشياء الحضارة، لأنها ليست من إنتاجه الفكري، بل هو مرحليا دون فهم هذه الأشياء بمراحل، ولهذا نجد الصراع ما بين الفكرة والنتيجة، لأن البعض يريد أن يتعامل مع النتيجة دون الفكرة، وهذا هو الذي يجعل المسلم لا يحسن التعامل الجيد مع الحضارة الغربية، فالحضارة الغربية ليست الديمقراطية فقط، ولا الانتخابات، ولا حتى حقوق المرأة، بل هي عالم أفكار متكاملة، وتحتاج إلى دراسات فكرية عميقة، وشاملة، ولا يهضمها إلا من كان قويا في عالم الأفكار.

يمكن للإنسان أن يقتني أشياء الحضارة، أو أن يحضر الدورات المتقدمة فى الكمبيوتر، أو أن يكون متخصصا فى الطب، أو الهندسة، ولكنه يكون متخلفا في عالم الأفكار، فهذه العلوم لا تصنع عالم الأفكار، بل هي تعلم الإجادة في فن التعامل مع أشياء الحضارة، ولهذا تحوّل المفكر مالك بن نبي من عالم التقنية إلى عالم الأفكار، فكان من الممكن بسهولة أن يكون مهندسا ميكانيكيا، وينتهي بدون أثر، ولكنه تحوّل إلى عالم الأفكار ليكون مهندسا في هذا العالم، والغريب، أن أغلب المفكرين في زمنه لم يفهموه، وأن أغلب المسلمين لم يتنبهوا لأهمية أفكار الرجل.

إن مشكلتنا لا تكمن بوجود دكتاتور، أو غيابه، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في وجود البيئة الفكرية التي تصنع التخلف، والمستبد كشخص من نتاج هذا العالم، والرعية التي تبقى تحت المستبد أيضا نتيجة طبيعية من هذا العالم، ولكن المستبد، وهو جزء من عالم التخلف يحاول استدامة الحالة؛ لأنها تساعده فى البقاء، والغريب أن غالب المثقفين في بلادنا يتعاملون مع الظاهرة كواقع حياتي، وليست كنتيجة لحالة غير طبيعية، وكل هذه الأمور بحاجة إلى تفكيك ظاهرة ( التخلف المركب ) فى بلادنا .

نحن لسنا وحدنا في الكوكب الأرضي، ولن نكون كذلك، ونحن لسنا فى الكوكب وحدنا بلا سفينة، ولكن نحن حتى اليوم ننتظر من الآخرين أن يصنعوا لنا سفينة النجاة، والسفينة التي تصنع لنا تتطلب مواصفات خاصة تليق بِنَا، وبالشروط الخاصة بحضارتنا وكياننا، وحين تفشل جهة ما فى صناعة السفينة لنا، نتحرك إلى جهة أخرى، ونطالب بها تجهيز سفينة النجاة، وهكذا، والسبب هو أن أغلب النخب متعلمة، وليست مثقفة، ويقلّ فى النخب صنّاع عالم الأفكار (المفكرون)، وأصبح الفلاسفة عندنا أنذر من الفلاسفة، وهم صناع النظريات، ما زالت الشعوب تائهة بين الموائد الفكرية التي أنتجتها مدارس فكرية في خارج السياق التاريخي والمجتمعي.

للتقدم شروط، وللتخلف أثمان، لدينا من يرفض التمثل بالشروط؛ لأنها صعبة، ولكنه يدفع أثمان التخلف، إما أن نتقدم بالقيم التي نؤمن بها، وبإنتاج عالم أفكارنا، أو أن ندفع أثمان التخلف كعادتنا، فنفتخر بعاداتنا وتقاليدنا التي لم تؤمن لنا مستقبلا حتى اليوم ( إنا وجدنا عليه آبائنا)

عبد الرحمن بشير

الشيخ عبد الرحمن سليمان بشير من جمهورية جيبوتى، داعية، ومثقف ، وناشط سياسي، وباحث فى الشؤون الإجتماعية، وقضايا القرن الأفريقي، خريج كلية الشريعة والقانون، عمل فى السلك التعليمي، والقضائي، والإنساني، ومارس الخطابة منذ نعومة أظفاره، وما زال، وله مقالات حول الدين والسياسة والفكر، ويعيش الآن فى كندا، ويعمل فى رفع الوعي فى القرن الأفريقي، والجالية الإسلامية والصومالية والجيبوتية فى المهجر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى