خواطر دعوية (٢) النفاق الاجتماعي
لا نتحدث في هذه الأسطر التالية عن النفاق وأحواله وأحكامه وأصناف الناس فيه ، ولا نسرد النصوص الواردة في تحريمه ولا نعرج على أقوال العلماء في قبحه وسوء منقلبه ، فكل هذا قد قتل بحثا وهو متوفر في ثنايا الكتب والمقالات وداخل المجلات والدوريات العلمية ، ولكن النفاق الذي نعنيه في مقالنا هذا هو نفاق من نوع آخر يزاوله الجميع ولا يجد فيه الغضاضة بتعاطيه ، بل يعد نوع من التحضر وسعة الأفق وفهم الواقع ومسايرة الجماهير واكتساب الأنصار وأن الحياة لا تتحرك إلا به ، فالجمال والجلال لا يأتي إلا بطريقه؛ لأن الشعوب تعشق هذا النوع من النفاق ، وقد أصبح موضة بالغة التأثير وتجلب القلوب والنفوس في لحظات لا يستطيع الإنسان وصفها؛ لأنها تفوق الخيال وتأسس فكرة لم يكن الناس يعرفونها عنك من قبل ، وتفتح لك مجالا أرحب وأوسع مما كنت فيه من قبل ، فمن لا يستطيع مزاولة هذه الفلم البارع بشكل حرفي فقد فاته الكثير من الشهرة والمدح والإطراء، وغاب اسمه ورسمه في منتديات الناس ومجالسهم الخاصة والعامة ، ولا يشاهد صوته وصورته في شاشات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي ودرجات المنابر وصالات الرياضة وقاعات الاجتماع.
فهذا النوع من النفاق الاجتماعي يستخدمه الجميع من دون استثناء ، فهو الأسلوب المفضل لدي الحكام والسياسيين وصناع القرار ، ويمثل اللعبة المربحة لدي التجار ورجال الأعمال ، ويتصنع في تمثيله عدد من الدعاة والوعاظ؛ لأنه ينشط الحماس ويكثر الأتباع والمؤيدين.
من عادة وطبع السياسي الانتهازية والبحث عن أقصر طريق وأسهل وسيلة للوصول إلى قلوب الناس وكسبهم وإمالتهم إلى جانبه ليفوز في معقده الانتخابي أو الاستمرار في ولايته الرئاسية ، ولأجل ذلك ليس عنده مبادئ ولا محرمات ولا خطوط حمراء ولا حواجز لا يجوز التجاوز بها ، بل كل ما يحقق له مطامعه السياسية حلال زُلال لا يشعر أي ذنب في استخدامها ، فإذا علم أن الشعب يحب الخير ويعشق الفضيلة فلا مانع لديه أن يتعاطاها ولو كان لا يؤمن بها ، وإذا كان الناس يميلون إلى الرذيلة والفساد كأنه شن وافق طبقة ، وأما كان الشعب يحب الظلم والتعدي فذاك يوم عرسه وفرحه ، ولأجل ذلك يحاول الزعماء التظاهر بما يحبه الناس.
قيل إن زعيم الاتحاد السوفييتي السابق خروتشوف زار مصر في شهر رمضان في الستينات القرن الماضي وقال يومها إنه صائم مع أنه لا يؤمن بالدين أصلا من أجل خداع الدهماء ، وذكر بأن القسم العربي في الإذاعة السوفييتية الشيوعية كانت تفتتح في برنامجها الصباحي آيات من الذكر الحكيم تضليلا وتدليسا ؛ لأن ذلك من أفضل وأنجح النفاق الاجتماعي ، في الفترة الانتخابية يزور السياسيون أماكن تجمعات الناس في المساجد والكنائس والمعابد والملاهي الليلة والنوادي الرياضة ويشاكون فيما يفعله الناس من طقوس وحركات وتراتيل دينية مع كونهم لا يؤمنون بها لكن من أجل كسب الناس.
فالحكام في البلاد الإسلامية بارعون في مزاولة وممارسة النفاق الاجتماعي فلا يشعرون أي حرج في تقبيل المصحف الشريف أمام الجمهور أو وضعه على جبهاتهم وفوق رؤوسهم تظاهرا لتقديره وتعظيمه ولكن لا يقبلون أن يكون حاكما عليهم وعلى الرعية متذرعين بأنهم أقسموا على حماية ومتابعة الدستور لا غير .
فرؤساء الدول والحكومات يحرصون على حضور صلاة الجمعة أو العيد أو المناسبات الدينية الأخرى كحفلات توزيع جوائز حفظ القرآن الكريم إذا كان يحقق لهم هدفا سياسيا ويقوي صورتهم أمام الشعب، وكذلك المعارضة لا تفوت بمثل هذه المناسبات .
ومن النفاق الاجتماعي لدى الحكام بأنهم يدفعون أموالا طائلة في إقامة المناسبات التافهة والحفلات الماجنة التي تمجدهم وتمدحهم بينما يتعللون بنقص الميزانية في إقامة مشاريع تصب في صالح الفقراء ، بل يتحملون في دفع نفقات السياحة أو الاستجمام للمشهورين ممن تفوق رواتبهم وعلاواتهم السنوية فوق الخيال ، بينما لا يكترثون في حاجات المعوزين ، فترى الواحد منهم يتحمس لاستقبال مريض أو ملهوف أو مظلوم في الميادين العامة ولكن لا يستطيع استقبال الآلاف الذين يطرقون بابه في كل يوم ، والغريب في أمرهم بأنهم ينشرون الصور التي التقطوها وهم يجلسون مع العلماء والدعاة لإيهام الناس بأنهم يعملون تحت سمع وبصر العلماء ، ولا تعجب إن رأيت صورهم وهم يصلون أو يحجون أو يحملون المصحف؛ لأن ذلك جزء من الدعاية والنفاق الاجتماعي.
وأما التجار ورجال الأعمال فلهم في مزاولة النفاق الاجتماعي حكايات لا تنتهي ، فالواحد منهم يتبرع بالملايين في دعم مرشح أو حزب ينوي خوض معركة انتخابية بينها لا يدفع إلا الفتات في حملات مساعدة المحتاجين ، فمنهم من يتولى ببناء مسجد فاخر ومكلف لتسطير اسمه في مدخله بينما يمتنع بمد يد العون للمعوزين ، فترى ثريا يوزع المال شرقا وغربا ولكن يبخل على أقرب الناس إليه من إخوانه وأبناء عمومته ، وإن نسيت لا أنسى بقصة رجل ثري وزع المال على كل من لاقاه ، ولما سئل عن فعلته قال أبحث عن الشهرة وأن يعرف الناس بي.
وأما حال بعض الدعاة من باحثي الشهرة والمال فحدث ولا حرج ، فتراهم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها من أجل الدعوة إلى الوحدة وجمع الكلمة في الملتقيات العامة وعلى منابر المساجد ظاهريا بينما ولكنهم يسعون إلى تفريق الأمة وتمزيقها في الخفاء من أجل استمرارهم في مناصبهم.
ومن النفاق الاجتماعي لدى بعض الدعاة الحرص على مشاركة وإلقاء كلمات الوعظ في الحفلات التي تقام من أجل استقبال مسؤول أو تهنئته أو مرور عام على تولية منصبه أو غير ذلك من المناسبات التي تشتمل أنواعا من المنكرات والمخالفات الشرعية ، ولا يستطيعون الإنكار عليها أو الإشارة إليها متعللين بأن المصلحة وحماية النظام العام يوجب غض الطرف عن بعض هذه المنكرات ، ويدخل هذا النوع من التصرف النفاق الاجتماعي الذي يحاول إرضاء الحكام بما لا طائل تحته.
النفاق الاجتماعي مرض عالمي لا يختص في أمة من الأمم أو بقعة من الأرض بل هو موجود أينما وجد الإنسان وينتشر بينهم كانتشار النار في الهشيم ، ولا تجد من ينكره أو يحذر من مغبة تعاطيه إلا القليل ، بل الجميع يستفيد منه كل على حسبه وقدره ، ولا يمكن محاربته أو مواجهته إلا إذا طهرت القلوب من حظوظ النفس ، والموفق من آثر الباقية على الفانية.