دوستويفسكي عميد الرواية النفسية
قد يختلف معي البعض ويتساءل لماذا “صاحب الجريمة والعقاب” وليس صاحب “انا كرنينا”؟
ومع إعجابي الشديد بليو تولستوي ورائعته “انا كرينينا” إلا أنني – وربما أكون مخطئا- أضع دوسكوفيسكي في المرتبة الأولى للرواية الروسية الكلاسيكية، امتاز الرجل عن غيره وتفوق عليهم في القضايا المتعلقة بالإنسان ذاته، وانصبت كل اهتماماته الأدبية على فهم طبائع البشر وإدراك اختلافاتهم، وبسبب ذلك الاهتمام بأفكار الإنسان ومشاعره وسلوكه نال صاحبنا الشهرة واستحق التربع على عرش الروائيين.
لا أعرف روائيا حاول وضع القارئ أمام ضعف الإنسان وعجزه كما فعله دوسكوفيسكي، ومن قرأ رواياته يدرك براعة صاحبنا في إظهار التناقض بين إرادة الإنسان ومصيره الذي لا مناص منه؛ أن الإنسان ليبحث عن مصدر ارتواء يتمتع به للأبد؛ لكنه لا يرتوي ولا يعرف أيضا سبب الظمأ.
حاول دوستويفسكي عرض ما في الإنسان من “فجيعة روحية” واختار في كتاباته الكلمات الأشد سوداوية؛ لوصف حالة شخصياته ومعاناتهم. حين بدأ دستويفسكي مسيرته الكتابية بالترجمة من الفرنسية، كان يختار أكثر المرادفات الروسية كابوسية وسوداوية، يبسط دستويفسكي سرده المشوق على كثير من الحوادث التي لا رابط ظاهري بينها؛ لتجتمع كلها خالقة فجيعة ما، وألمًا هائلًا؛ وكأنه لا يريد أن يترك قارئه دون أن يجعله يرتجف ألمًا وإشفاقاً على معاناة الإنسان وعجزه أمام مصيره.
ومما يلاحظه القارئ من خلال روايات صاحبنا أنه يحاول بعث النفس الإنسانية من مواتها ولكن ليس بالفضيلة؛ بل بالخطيئة، وأنه يعادي كل ما يبدو مثاليًا وكاملًا، ويعري في شخصياته الدوافع الخفية حتى للحظات التعاطف الإنساني مع الضعفاء. قد تبدو لحظات كهذه خيرًا مطلقًا؛ لكنه يكشف تحتها طبقات من التعقيد، مثل الفضول للتعامل مع أشكال الحياة الأخرى، أو المتعة السادية في مشاهدة معاناة بشر معذبين، أو الرغبة في الإحساس بالقوة، أو بالتعالي الأخلاقي إلى آخره.
ظلّ “دوستويفسكي” طوال حياته يعرض في أعماله ذلك الصراع المحبب إلى نفسه؛ صراع من يتحلّون بالفضيلة ضد ظروفهم القاسية، معتقدين أن فضيلتهم ستصمد. ويضع شخوصه – الذين تملؤهم قناعات أخلاقية بعينها- في ظروف مثيرة للشفقة؛ ثم يستخلص من معاناتهم ومحاولاتهم للنجاة بأنفسهم آخر قطرة ممكنة من التلاطف والارتباك الإنساني.
حاول “دوستويفسكي” في أعماله اكتشاف قدرة البشر على تبرير الخطيئة والتلاعب والخديعة؛ سواء خداع النفس أو الآخرين، في شتى أشكال العلاقات البشرية. في “الزوج الأبدي” مثلا يتطرق دوستويفسكي لقدرة المرأة على التلاعب بزوجها. وفي “حلم رجل مضحك” يحاول أن يسبر أغوار رجل يقنع نفسه بأن الحياة لا معنى لها، وأن العالم مجرد من كل غاية نبيلة؛ ليرى كيف تؤثر هذه الفكرة على نزعات الشر الكامنة فيه.
الخلاص بالخطيئة، والتفوق الأخلاقي للمعاناة على النعيم، والرضوخ على الصراع؛ هي أفكار عُرضت ونوقشت باستفاضة في روايات أوروبية أخرى كثيرة من قبله؛ ربما بهذا يصبح “دوستويفسكي” الأديب “الأكثر أوروبية” من بين الكتاب الروس؛ على الرغم من كونه أكثرهم كرهًا للغرب أيضًا. دوستويفسكي نفسه إذن صورة للتناقض الذي يحاول عرضه في أدبه كحتمية لا مفر منها في حياة الإنسان. إذن فالإسقاطات الدينية والتعبيرات المسيحية حاضرة باستمرار في أعماله؛ لكن بطريقة تمثل طفرة عن ما اعتاده من أسلوب الرواية المثالي؛ مثل التعبيرات الجمالية المبالغ فيها، والنهايات السعيدة.
لكن الظاهر في أدب صاحبنا أن هذا الحضور المسيحي الكثيف لا ينتصر لتفوق الإنسان الأخلاقي ولا الديني؛ بل على العكس تمامًا، لا شيء أخلاقي في رائعتيه الأشهر “الجريمة والعقاب”، و”الإخوة كارامازوف”
إن إنسان دوستويفسكي يتقدم دائمًا نحو تناقضات أكثر، إنه مشتت، عاجز وعنيف؛ تمتزج هشاشته بالعنف والانفعال، وطهارته بالوقاحة، وجموحه بالندم والخوف.
يبالغ دوستويفسكي في تحميل الإنسان بكل ما ليس تعبيرًا اعتياديًا عنه؛ مثل العنف والقتل والجريمة؛ ويقوم بصقل شخصياته، محاولا اكتشاف أقصى احتمالات الشر الكامن فيها.
وعند قراءة رائعتيه الأشهر”الإخوة كارامازوف” و”الجريمة والعقاب”، تجد كيف حاول تعرية المأساة خلف اختيارات الإنسان و حركاته وأقواله، تلك التي لا يدرك لها تفسيرًا؛ لكنه لا يجد نفسه إلا مدفوعًا دفعًا نحوها؛ يرتكب “راسكولينكوف” جريمة حمقاء لا طائل من ورائها، ويغرق “إيفان كارامازوف” في قلقه وهذيانه ومخاوفه؛ دون أن تفلح الحوارات الطويلة في شرح ألمه.
في عالم دوستويفسكي القاتم؛ لا تخضع الدوافع الإنسانية لمنطق؛ بل للغضب والعجز المحفورين في صميم الإنسان، نرى أن صاحبنا يتعامل مع الإنسان باعتباره كائنًا ميتافيزيقيًا؛ تُعبر دوافعه عن اللاشعور أو اللاوعي والعقل الباطن؛ لهذا اعتبر رواياته تقاطعًا بين رؤيته الفنية والفلسفية، والتفسيرات الفرويدية للاوعي البشري
ومما يلاحظه القارئ أيضا انتشار حالات الانتحار بكثافة في أعمال الأديب الكبير، تبدأ الميول الانتحارية بالتشكل عند شخصياته؛ ربما حين تيأس من إيجاد معنىً للحياة، أو حين يعجز الدين عن العمل كمُسكن، أو يعجز الفرد عن الإيمان بالله والنعيم الأبدي. الفلسفات المعاصرة مثل المادية لها دور أيضًا في اتجاه الشخصيات نحو القتل كخلاص أخير. كان صاحبنا يشعر أن الإيمان بالله والخلود أمر ضروري للحفاظ على وجود الإنسان على الأرض، واحتمال ما فيها من قبح ومعاناة وألم.
في الجريمة والعقاب راسكولينكوف القاتل الملطخ بالدماء، يقابل بوليشكا الفتاة الصغيرة التي تشكره بمحبة، فيطلب منها مرتبكًا أن تصلي من أجله؛ ثم بعد ثانية ينفجر ضاحكًا، ويصيح بحماس: كفى؛ فالحياة هناك تنتظر خلف هذا السراب والفزع؛ هكذا تبحث روايات دوستويفسكي للمرة الأولى في ما وراء الحياة الحقيقية؛ دون أن يعني هذا أنها تتجه إلى مثاليات الحب والتسامي والفضيلة.
ولا يخفى على أحد أن أعمال الأديب الكبير تأثرت بجانب من الأحداث السياسية والاجتماعية التي مرّ بها، وعلى سبيل المثال كانت تجربة حركة المقاومة السرية التي انخرط فيها تركت أكبر الأثر على نفسه. حُكم عليه بالإعدام، ووقف في البرد القارس تحت حبل المشنقة في انتظار جلاده؛ ليأتي الخبر أن الحكم قد تغير إلى 4 أعوام في سجن سيبيريا المرعب؛ بعد خروجه من السجن، تخلت أعماله عن واقعيتها الرومانسية، وأصبحت أكثر اهتمامًا بدراما الحياة التي تعجّ بالتعقيدات النفسية والفلسفية
يعتبر دوستويفسكي مؤسسا لمدرسة جديدة في فن الرواية، شيد فيها صرحًا فنيًا أصيلًا؛ قوامه أشكال أدبية متنوعة ومختلفة، إنها خليط متجانس بين النص الديني، والنقاش الفلسفي، والعرض الساخر.
وعلى الرغم إن بعض كبار الفلاسفة في عصره لقبوا صاحبنا بالفيلسوف والمفكر العتيد إلا انه لم يعتبر نفسه فيلسوفًا أبدًا. وأكاد أجزم ولعل غيري يشاطرني الرأي أن رفضه للقب الفيلسوف كان تواضعا منه.
وببراعة متناهية يختار دوستويفسكي مواضيع أعماله لتكون ذريعة ودعامة لشرح مأساة الإنسان على هذه الأرض، مواضيعه منتقاة دائمًا “بإحساس حاد بالقلق” إذ تلاحظ جريمة كاملة يتبعها ندم غير منطقي في “الجريمة والعقاب”، وقديس لا يشعر أنه يمتلك إرادة في طهارته؛ يواجه مجتمعًا غارقًا في الفساد في “الأبله”، وتباغض وتنافر شديد بين أب وأبنائه في “الإخوة كارمازوف”
وللسخرية نصيب وافر في أعمال دوستويفسكي، وتتميز سخريته بأنها تهاجم أفكارًا بعينها ممثلة في شخوص الرواية، سخرية غير مباشرة تظهر في الحوارات الطويلة بين مختلف وجهات النظر؛ فمثلا اللقاء الأول بين صوفيا وراسكولينكوف في الجريمة والعقاب، يعتبر أحد أكثر المشاهد سخرية وكمالًا في أعماله.
ومن الصدف أني في يوم الأحد الماضي وشوارع مقديشو كانت مغلقة بسبب إحياء الذكرى الأولى لفاجعة 14 أكتوبر كنت جالسا مع بعض الأصدقاء في شرفة فندق دوربن الجديد “بار فيات سابقا” والتفاتة عفوية مني نحو شارع كمال الدين صالح تراءي لي ما تبقى من مبنى المركز الثقافي المصري المدمر، وهو المكان الذي عرفت فيه، وقرأت أعمال دوستويفسكي وغيره من عملاقة الأدب والفكر.
معظم التعبيرات الواردة في هذا المقال تبدو لي منقولة من موقع الجزيرة من مقال الكاتبة رفيدة طه
أو ربما هي نقلت من هنا
أيا كان فالأمانة العلمية مهمة