الصومالمقالاتوجهات نظر

رواندا: عبر ودروس

 

في الثامن من هذا الشهر سافرت الى نيروبي مرورا بكيغالي على متن الخطوط الجوية الرواندية. اخذنا مقاعدنا، وجلس بجانبي رجل من اهل رواندا. شددنا الأحزمة وأقلعت الطائرة وقرأ كل من الركاب دعاء السفر كل على حسب شعائره وطقوسه. والذي لم يتلفظ بالدعاء بتحريك الشفتين قرأها بالنية مغمض العينين. فالإنسان في مثل هذه الأحوال كائنا ما كان يعود إلى فطرته التي فطر الله الناس عليها من الإيمان بقوة عليا قاهرة تدبر هذا الكون منقادا له طوعا أو كرها ويدعو الله مخلصا له الدين ويعرف أنه لا حول له ولا قوة إلا بالله مستسلما لإرادة الله وحفظه ورعايته.

ولما أقلعت الطائرة واخترقت عنان السماء واستوت في مسارها حللنا الأحزمة وشرع الركاب في اختيار طريقتهم المثلى لتزجية الوقت وقطع المسافة، فمنهم من يعد نفسه للاسترخاء والخلود إلى النوم ومنهم من من يستمع إلى ما يحب الاستماع إليه ومنهم من يشاهد ما يود مشاهدته ومنهم من يلجأ إلى القراءة وأنا منهم إلا أنني رأيت فيلما وثائقيا عن رواندا يشاهده أحد من الركاب كان جالسا أمامي فعدلت عن هوايتي المفضلة وأحببت مشاهدة هذا الفيلم قبل الشروع في القراءة.

كان الفيلم عرضا وثائقيا أعدته قناة تليفزيونية أمريكية عن تجربة رواندا من الإبادة الجماعية إلى النهوض الجماعي ومن التخريب إلى التعمير ومن التدمير إلى التنمية ومن الصراع إلى السلام ومن الاختلاف إلى الوئام ومن الفوضى إلى النظام ومن الاضطراب الى الاستقرار. واذا أردنا ان نوجز ذلك كله في كلمات جامعة جاز لنا أن نقول ومن الإفساد إلى الاصلاح لأن الإفساد كلمة جامعة ترمز إلى كل سوء والإصلاح اسم جامع لكل معنى جميل. ولذلك كان الاصلاح بمعناه العام رسالة المصلحين من الأنبياء والعلماء والمفكرين، والإفساد رسالة المفسدين من الطغاة والمتجبرين والمترفين.

ومما لفت انتباهي وآثار اعجابي في هذا الفيلم مقابلة اجرتها القناة مع الرئيس الرواندي بول كيغامي ابو النهضة الرواندية الحديثة، وكان مما سألته كيف استطاع تحقيق النهضة بعد الإبادة والسلام بعد المجازر؟ فأجاب أنه بعد سيطرة قواتي على البلاد وتعرض أبناء قوميتي من التوتسيين للإبادة والقتل الجماعي فكرت في الأمر مليا ولم يكن أمامي إلا خياران فإما النظر إلى الوراء والخوض في عملية انتقامية لا تبقي ولا تذر ولا ينتصر فيها أحد وإما أن انظر إلى المستقبل وأنسى الماضى والشروع في عملية مصالحة حقيقية فاخترت الآخرة على الأولى فكان ما كان مما تراه من النهضة بعد الكبوة ومن الأمن بعد الخوف.

مواقف العظماء في تاريخ البشرية تتشابه. العفو عند المقدرة سمة من سمات القادة الافذاذ. “اذهبوا فأنتم الطلقاء” كلمات خالدة أطلقها عظيم العظماء في حالة الانتصار على اعدائه الذين آذوه واصحابه ولكن النفوس العظيمة تتعالى على الاحقاد وتترفع عن عن الانتقام والتشفي. بعد سيطرة متمردي التوتسيين بقيادة كيغامي الحكم فرّت قبائل الهوتو إلى البلدان المجاورة خوفا من التنكيل ولكن القائد الكبير كان كبيرا بكل ما تحمله الكلمة من معنى فعفى عنهم ليس عن ضعف ولكنه عرف أنه مهما قتل من بني وطنه ومهما سفك دماءهم فإنه لن يدخل التاريخ أكثر من مجرد قاتل سفاح، فآثر الانتصار لوطنه على الانتقام لابناء عمومته فنجا ونجوا جميعا.

جاري الرواندي في المقعد الذي يليني كان يشاهد فيلما وثائقيا عن الحيوان وحياتهم وصراعاتهم من أجل البقاء فشعرت أنه منقبض مما أشاهده من ماساة بلده المروعة، فقلت له: يؤسفني أن أكون قد أزعجتك بمشاهدة تلك الذكريات الماساوية أمامك، فقال لى: لا باس، فقلت له: لا تنس أنني أيضا لا أطيق رؤية الثعابين تتصارع والأسود تسطو على الغزال وتدق عنقها دقّا والتمساح يلتهم الأسماك، وأردفت ذلك ممازحا على أن كلانا يشاهد فيلما وثائقيا واحدا تتشابه أسبابه ونتائجه وان كان يبدو في الظاهر غير ذلك، فقال ماذا تعني؟ فقلت له: أنني أشاهد فيلما عن إنسان انسلخ عن إنسانيته وانحط الى درك أسفل من الحيوان لأن الحيوان لا يقتل فريسته إلا لدافع سد الجوع أو دفع خطر حقيقي على حياته بينما يقتل الإنسان أخاه الانسان في كثير من الظروف من أجل القتل والتشفي والانتقام.

أسندت رأسي على المقعد واغمضت عيناي سارحا بذهني أفكر في الأسباب التي تجعل أمتين من الأمم تواجهان تجارب مأساوية متشابهة فتتغلب إحداهما على الماساة وتحول هزيمتها إلى نصر وضعفها إلى قوة بينما الأخرى يجرفها التيار وتسقط في هوة سحيقة يصعب الانتشال منها. فكرت في بلدي الصومال وراواندا اللذين مرّا على تجربة الاقتتال الأهلي ولكن رواندا نجحت في تجاوز معاناتها بينما الصومال لم تتعاف بعد عن ويلات الحروب وجراحات الصراع الأهلي. أقلب الأسباب في ذهني وأقول في نفسي ربما يكمن السبب في مساعدة القوى الكبرى لمنع الفوضى في بعض البلدان التي لها مصالح فأجيب في نفسي لم يحدث شيء من ذلك في رواندا، فالعالم كله كان يشاهد ماساة هذا الشعب ولم يحرك ساكنا وكأنه يتلذذ بآلامه وإبادته.

ثم أقول قد يكون السبب هو الفرق بين الشعبين فيظهر لي أيضا أنه ليس هناك شعبا أفضل من شعب غلا ما يحيط به من ظروف مؤاتية تنزع به نحو المنزع الإنساني من حب الفضيلة والعدالة والاثرة او مثبطة قاهرة تنحو به نحو الرذائل والكراهية والاحقاد. فظروف الشعب الرواندي في سنوات الحرب الأهلي لم تكن بأفضل من ظروف الشعب الصومالي، فالكراهية والأحقاد والمجازر ببن الشعوب الافريقية تشعلها مظالم سياسية يوقد نارها سياسيون يستخدمون الانتماءات العشائرية للوصول إلي أغراضهم السياسية. ثم أقول في نفسي قد تكون القيادة هي السبب، فقد لا يكون ذلك دائماً صحيحا ولكنني أجد هنا سببا معقولا على الأقل في المقارنة ببن حالتي الصومال ورواندا. فلو لم تكن القيادة الحكيمة لبول كاغامي لكانت رواندا اليوم مسرحا للعبث السياسي غارقا في الفوضى والاقتتال الأهلي تمرح فيه وتلهو ذئاب العالم كيفما شاءت تحت ظل حفظ سلام لا تريد تحقيقه على الارض. وماذا لو أن قيادات جبهات المعارضة الصومالية تصرفت بحنكة وحكمة حين سيطرتها على الحكم في بلادهم وعلوا الانتماء الوطني على الانتماء العشائري ورفعوا غصن الزيتون ودشنوا مصالحة وطنية حقيقية بدل اللجوء إلى نظام العصبة والحمية الجاهلية.

شعرت أن الطائرة بدأت تستعد للهبوط وأنا مستغرق في تلك الأحلام أغفو أحيانا دقائق معدودة ثم استيقظ مستأنفا حديث نفسي، لم أقرأ ولا سطرا واحدا مما أعددته لهذه الرحلة. أطللت من النافذة والطائرة تقترب فرأيت منظرا بهيا لمدينة كيغالي طرق معبدة وشوارع منظمة كأنها واحة خضراء تظللها الأشجار وقد علمت من البرنامج الوثائقي ان الأمم المتحدة اختارت عام ٢٠١٥ كيغالي أجمل وأنظف مدينة في أفريقيا بعد أن كانت مدينة اشباح والجثث ملقاة في شوارعها قبل عشرة أعوام.

ولما حطت الطائرة في مطار كيغالي وألقيت عصا الترحال رأيت مطار كيغالي صار مركزا مهما للرحلات العالمية يستقبل الناس افواجا من جميع القارات ورأيت الطائرات الرواندية زرافات ووحدانا جاثمات على أرض المطار تصعد وتهبط في رحلات متجهة نحو جهات العالم الأربع وفي المطار استقبلتنا فتاة رواندية جميلة بابتسامة ساحرة .
وشعار الخطوط الحوية الرواندية هو:
Rwanda Air, Fly the Dream of Africa.
الخطوط الحوية الرواندية: طيران الحلم الأفريقي.
وهو شعار يختصر رحلة رواندا ونهضتها المعاصرة وحلم بلدان أفريقية كثيرة للطيران حتى تلحق برواندا.

في رواندا عبرة لمن يعتبر ودرس لمن يعي الدرس. رواندا حاربت الفساد وازالته واستثمرت في التعليم وحققت نهضة اقتصادية مكنها من ارتفاع الدخل الفردي الرواندي ثلاث أضعاف. فيا قوم، رواندا طارت وحلقت في السماء فما الذي يمنعنا عن الطيران وعن التحليق؟

 

عبد الواحد عبد الله شافعي

كاتب صومالي من مواليد بورعكر حاصل على درجة الليسانس في الدراسات الإسلامية واللغة العربية من كلية الدعوة في ليبيا في عام ١٩٩٤. نال دبلوم ماجستير في اللغة العربية وآدابها من الكلية نفسها في عام ١٩٩٦. حصل على ماجستير في اللغويات وتعليم اللغات الأجنبية من جامعة لندن متروبولتان في بريطانيا في عام ٢٠١٦. يعمل في خدمة الجاليات المسلمة في بريطانيا. له مقالات وبحوث فكرية وسياسية منشورة في الصحف والمواقع العربية. يهتم بالثقافة وقضايا الفكر السياسي عامة والإسلامي خاصة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى