زيارة السيسي لجيبوتي وانعكاساتها الإقليمية

مقدمة
في ظل تسارع التحولات الأمنية والسياسية في منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي، جاءت زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى جيبوتي في 23 أبريل/ نيسان 2025 لتشكّل محطة استراتيجية فارقة في المشهد الإقليمي. رغم قصر مدة الزيارة، إلا أنها حملت رسائل سياسية وأمنية قوية، أكدت التزام القاهرة الثابت بحماية مصالحها في هذه المنطقة الحيوية، التي تمثل شريانًا رئيسيًا للأمن القومي المصري وتزامنت الزيارة مع تصاعد الهجمات الحوثية على خطوط الملاحة الدولية في البحر الأحمر، ومع تعزيز إثيوبيا لتحركاتها البحرية الطموحة، وهو ما وضع مصر أمام تحديات متزايدة لحماية معابرها الحيوية، وصون مصالحها الاستراتيجية. من هذا المنطلق، لم تكن زيارة السيسي إلى جيبوتي مجرد جولة دبلوماسية عابرة، بل خطوة محسوبة تهدف إلى إعادة ضبط موازين القوى الإقليمية، وتوجيه رسائل واضحة إلى القوى الساعية للتمدد في البحر الأحمر، مفادها أن أمن هذا الممر الحيوي سيظل رهين إرادة دوله المطلة، لا رهينة لمعادلات القوى العابرة.
الخلفية الإقليمية للزيارة
شهدت منطقة البحر الأحمر، في الأشهر الأخيرة، تصاعدًا ملحوظًا في الهجمات الحوثية على السفن التجارية، ما دفع القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إلى توسيع وجودها العسكري البحري في المنطقة بهدف تأمين حركة الملاحة. هذا التصعيد يعكس التحديات الأمنية المتزايدة في إحدى أهم الطرق البحرية العالمية. فقد أعلنت إثيوبيا، في خضم هذا التوتر الأمني، نيتها تأسيس قوة بحرية، ترتكز على أحد موانئ الجوار، مثل: جيبوتي أو صوماليلاند أو إريتريا، وهو ما أثار قلقًا مصريًا متزايدًا، كما أن التنافس الدولي يتزايد في القرن الأفريقي، حيث تتشابك مصالح دول الخليج وتركيا وإسرائيل مع القوى الغربية، مما يهدد بإعادة تشكيل الخريطة الاستراتيجية للمنطقة. هكذا بدت الزيارة المصرية، في هذا المشهد المعقد، محاولة لتعزيز الحضور المصري هناك، لضمان مصالحها الأمنية والاقتصادية، وتأمين موطئ قدم راسخ في قلب هذه التحولات.
أهداف الزيارة في بعدها المعلن والخفي.
حملت زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى جيبوتي جملة من الأهداف الاستراتيجية التي تجاوزت في مضمونها الإطار البروتوكولي المعتاد للزيارات الرئاسية، إذ اتسمت محاور اللقاءات والبيانات الرسمية بوضوح في الرسائل السياسية والأمنية، سواء من حيث ما تم التصريح به، أو ما تأكد ضمنيًّا كإشارات دقيقة، تعكس التوجّه المصري الجديد في رسم ملامح توازن القوى في منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي. ركزت الزيارة، في بعدها المعلن، على تعزيز التعاون الثنائي في مجالات حيوية، تتصدرها ملفات الأمن البحري والطاقة والاستثمار، إلى جانب التبادل التجاري، وهو ما يعكس مسعى القاهرة إلى تنمية نفوذها الاقتصادي في هذا الممر البحري بالغ الأهمية. كما أعادت مصر التأكيد على مبدأ طالما تبنّته في سياساتها الإقليمية، وهو أن أمن البحر الأحمر ينبغي أن يكون مسؤولية حصرية للدول المشاطئة له، دون السماح بتدخلات خارجية قد تربك المعادلات الأمنية أو تفتح الباب أمام نفوذ لا يخدم المصالح الإقليمية.
لم تغب عن أجندة المحادثات القضايا الساخنة في الإقليم، حيث سعت القاهرة وجيبوتي إلى تنسيق المواقف وتوحيد الرؤى تجاه أبرز الملفات السياسية في المنطقة، خاصة تلك المتعلقة بالسودان والصومال وجنوب السودان، وهو ما يعكس إدراكاً مشتركاً لأهمية التحرك الدبلوماسي الجماعي في وجه التحديات المتزايدة؛ فالصومال، الذي يشكل إحدى بؤر الاهتمام الاستراتيجي لمصر وجيبوتي، كان حاضراً بقوة في المحادثات. فقد جدّد الطرفان دعمهما الكامل لوحدة أراضي الصومال وسلامته الإقليمية، مع التشديد على دعم مؤسسات الدولة الصومالية، لا سيما في مجال الأمن ومكافحة الإرهاب. مثلت مساهمة مصر في بعثة الاتحاد الأفريقي في البلاد ترجمة فعلية لهذا الالتزام، ما يعكس عمق انخراط القاهرة في تعزيز الاستقرار بهذا البلد الحيوي.
أما الملف السوداني، فقد اتسم بموقف حاسم من الجانبين، عبّرا فيه عن رفض قاطع لأي محاولات تهدف إلى تقويض وحدة السودان أو خلق هياكل سياسية بديلة للمؤسسات الرسمية. وأبدى الطرفان حرصهما على الدفع بمسار دبلوماسي متوازن لتقريب وجهات النظر بين الأطراف السودانية المتنازعة، سعيًا وراء استعادة الاستقرار، ومنع تفكك الدولي وفي جنوب السودان، تصاعد القلق من الانقسامات السياسية والعسكرية بين الرئيس سلفا كير ونائبه السابق رياك مشار، وهو ما دفع السيسي وجيله إلى دعوة الأطراف المتنازعة إلى ضبط النفس والاحتكام إلى لغة الحوار لحماية مسار السلام الهش في الدولة الوليدة، التي تُعد امتدادًا طبيعيًا للأمن القومي لدول حوض النيل والقرن الأفريقي.
لا تقل الأهداف غير المعلنة للزيارة أهمية عن تلك المعلنة؛ فالقاهرة حريصة على منع أي اتفاق محتمل بين جيبوتي وإثيوبيا قد يمنح الأخيرة موطئ قدم بحري على البحر الأحمر، بما يشكل تهديدًا مباشرًا للمصالح الاستراتيجية المصرية. كما تهدف مصر أيضا استعادة دورها المتراجع في القرن الأفريقي، في ظل تزايد النفوذ التركي والإماراتي، واختبار الموقف الجيبوتي لضمان ألا تتحول إلى منصة لدعم التحركات الإثيوبية التي تتقاطع مع المصالح المصرية. بهذا تتحول الزيارة إلى خطوة حاسمة ضمن استراتيجية أوسع للحفاظ على الأمن القومي المصري، في واحدة من أكثر المناطق حيوية وحساسية في العالم.
التحليل الاستراتيجي للموقع الجغرافي.
تُعد جيبوتي نقطة استراتيجية حاسمة تربط المصالح المصرية والخليجية من جهة، والمصالح الإثيوبية من جهة أخرى، مما يجعلها محط اهتمام بالغ في السياسة الإقليمية. رغم أنها تعتمد بشكل كبير على إثيوبيا في مجالات مثل الكهرباء والتجارة، فهي تشعر بقلق متزايد حيال الطموحات البحرية الإثيوبية التي قد تهدد دورها كميناء إقليمي حيوي وتوازن جيبوتي بين هذه الضغوط يمثل عاملاً حاسمًا في تحديد قراراتها الخارجية، مما يجعل الزيارة المصرية بمثابة محاولة لتوجيه هذا التوازن لصالح القاهرة، وتعزيز دورها في المنطقة. إذ تسعى مصر إلى بناء كتلة إقليمية متكاملة تضم مصر والسودان وجيبوتي والسعودية وإريتريا لتكون بمثابة درع أمني، يحول دون أي تمدد إثيوبي في البحر الأحمر ويعزز الحضور المصري في جيبوتي مصالح متعددة، بما في ذلك مراقبة الملاحة البحرية وكبح النفوذ الإثيوبي المتزايد، ورصد الأنشطة المتنامية للقوى غير العربية في المنطقة، مثل إسرائيل مما يسهم في تعزيز الأمن الاستراتيجي المصري والإقليمي.
الردود الإثيوبية المتوقعة على التحرك المصري
من المتوقع أن تثير التحركات المصرية الأخيرة في منطقة البحر الأحمر، لا سيما الشراكة المتنامية مع جيبوتي، استجابة إثيوبية ذات طابع تصعيدي ومتعدد المستويات، في ظل ما تعتبره أديس أبابا مساسًا غير مباشر بطموحاتها الجيوسياسية ومصالحها الاستراتيجية. يُرجّح أن تعمد إثيوبيا إلى تكثيف انخراطها الأمني واللوجستي في صوماليلاند، وتحديدًا في ميناء بربرة، في محاولة لخلق منفذ بحري بديل، يعزز استقلاليتها عن جيبوتي، ويفك ارتباطها التقليدي بميناء جيبوتي الذي يمر عبره أكثر من 90٪ من تجارتها الخارجية. يتوقع أن تتخذ هذه الخطوة طابعًا تصادميًا غير مباشر مع المصالح المصرية، بالنظر إلى أن القاهرة ترى في النفوذ الإثيوبي المتصاعد في هذه المنطقة تهديدًا لمساحة نفوذها الإقليمي وبالتوازي، قد تستخدم أديس أبابا أدوات ضغط اقتصادي ناعمة تجاه جيبوتي، عبر تقليص التعاون في مجالات محددة، أو إعادة تقييم اتفاقيات تجارية كانت تصب في مصلحة جيبوتي، كنوع من الرد على تقاربها المتزايد مع القاهرة. ومن المحتمل أن تتجه إثيوبيا كذلك نحو تدويل ملف وصولها إلى البحر، مستندة إلى خطاب “الحق الجغرافي المحروم”، وهي نغمة بدأت تتكرر في الخطاب الرسمي الإثيوبي مؤخراً، وقد تؤسس لجبهة دبلوماسية طويلة الأمد في المنابر الإقليمية والدولية، ما من شأنه أن يعقد مواقف الأطراف المعنية، وعلى رأسها مصر.
في المقابل، قد تسارع القاهرة إلى تفعيل دور “منتدى الدول المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن”، في مسعى لتحويله من إطار تشاوري فضفاض إلى منصة إقليمية أمنية رسمية، تعمل على ضبط التوازنات في هذه المنطقة البحرية الحساسة، والحد من محاولات فرض وقائع جديدة من قبل أطراف غير مشاطئة، مثل إثيوبيا وقد تتخذ التداعيات الإقليمية لهذه التفاعلات طابعًا أكثر عمقًا، إذ تلوح في الأفق مؤشرات على تدهور تدريجي في العلاقات الإثيوبية–الجيبوتية، خاصة مع تراكم الملفات الخلافية، مثل: الاتفاقيات التجارية المؤجلة أو إعادة صياغة بنود التعاون في مشروعات البنية التحتية العابرة للحدود. كما أن احتمالات تقارب إثيوبيا مع صوماليلاند قد تتزايد، وهو ما يهدد بإعادة ترتيب موازين القوى في المنطقة، ويدفع باقي الأطراف نحو تحالفات مضادة.
تؤشر هذه التطورات إلى تحوّل في طبيعة التحالفات الإقليمية، من مرحلة يغلب عليها الطابع الاقتصادي والتنموي إلى حسابات أمنية واستراتيجية أكثر تعقيدًا، إذ بات البحر الأحمر أحد مسارح التنافس الجيوسياسي الأشد حساسية، وسط محاولات كل طرف لتثبيت موطئ قدم يضمن مصالحه في معادلة متقلبة وغير مكتملة الملامح بعد ولم تكن زيارة الرئيس المصري إلى جيبوتي مجرد محطة دبلوماسية، بل كانت إعلانًا استراتيجيًا عن عودة القاهرة إلى ميدان التنافس على البحر الأحمر والقرن الأفريقي. لقد كانت الرسالة واضحة: لم يعد الإقليم ساحة مفتوحة بلا ضوابط، والمصالح الحيوية المصرية ستُدافع عنها بثقل سياسي وأمني متجدد. ومع ذلك، فإن هذه العودة محفوفة بتحديات دقيقة؛ إذ قد تتطور لعبة النفوذ الناعمة إلى صراعات صلبة، ما لم تنجح الأطراف الإقليمية في إدارة التوازنات بحكمة ومسؤولية.