الأدب والفنثقافة واجتماعمقالاتمقالات الرأيوجهات نظر

عام جديد… آمال وآلام

 

ودعنا عاما ونستقبل عاما آخر، ولا أقول جديدا لأنني لا أرى فيه جديدا، وإنما هو تكرار للأيام والشهور السالفة ولا تحمل جديدا في طياتها. وكأننا ندور مع الأيام أينما دارت كمثل ريشة في مهب الرياح، يسلّمنا يوم إلى يوم حتى إذا وصلت سبعة استثقلوها فقالو أسبوعا بدل سبعة أيام، فشهرا بعد أربعة أسابيع، فسنة بعد أثنتا عشر شهرا، وهذه الأيام والشهور ليست في الحقيقة إلا يوما واحدا ممتدا في عمر الإنسان ولكن الناس قسموها إلى مواقيت مختلفة لقضاء حوائجهم وتسيير شؤونهم.

عيد بأية حال عدت يا عيد * بما مضى ام بأمر فيك تجديد
اما الاحبة فالبيداء دونهم    *    فليت دونك بيدا دونها بيد

ونحن نقول مع شاعرنا المتنبي ” عام بأية حال عدت ياعام ……” فالمتتبي لم يجد في الأعياد شييا جديدا يحقق بها آماله واإما رآها استمرارا لترسيخ إخفاقاته والتصدي لطموحاته. فماذا كانت آمال شاعرنا وطموحاته؟ طلب العزة والملك والسؤدد التي رآها في يد من هم أقل منه حكمة وأسخف عقلا. طلبها بجميع الحيل وباء بالفشل الذريع، وفاته أن الأيام في رفعها وخفضها للأنام لا تسير على سنن منطقية معهودة دوما وإنما تخبط خبط عشواء فترفع الجاهل الغمر الى ذروة العُلى وتخفض العالم الحصيف إلى الحضيض اعتباطا، كمن يحتطب ليلا فلا يدري اوقعت يده على جوهر ثمين ام على حيّة رقطاء تنفث السموم.

ومن سخرية القدر أن شاعرنا قد طلب العز والشرف عن طريق الرياسة والملك، ولكن الله أعطاه ملكا أخلد وأوسع من الرياسة السياسية والولاية الدنيوية التي سعى إليها طوال عمره ألا وهو ملك الأدب الذي خلد اسمه في سجلات الخالدين. وما ذا بقي من اسماء هولاء الملوك الذين كان يمدحهم ويتقرب إليهم ويتوددهم من أجل توليته ولاية مهما كانت ضئيلة هامشية. فقد يفني الانسان عمره لنيل أمل يراه مهما في حياته ولكن الله يصرفه عنه من حيث لا يدري إلى تحقيق أمل آخر أكثر بركة وأنفع له في حياته ويكون له منه بقاء الذكر الحسن والصيت الطيب. وكم من العلماء والمثقفين من دخلوا في مستنقع الصراعات السياسة ولم يستطيعوا الخروج منها فغرقوا فيها، فلا هم حققوا شيئا ذا بال في السياسة ولا هم نفعوا الناس بعلمهم وثقافتهم.

نهاية عام في حقيقة الامر مناسبة للمراجعة والاعتبار وليست مناسبة للفرح ولا للتهنئة، ذلك عادة جرى عليها العرف وانطلقت بها الألسن. ترى الناس يقولون بعضهم لبعض “كل عام وأنتم بخير وأعاده الله علينا بالخير والبركة” يقولون ذلك بأفواههم حتى ولو لم يكن في عامهم هذا خير يرجون استعادته ولا بركة يطلبون استزادتها. ومثل ذلك ان تسأل احدا عن حاله، فيجيبك على الفور بخير، حتى وإن كان يتململ في آلم مبرح! قد يكون الإنسان في تجربته الطويلة على ظهر هذه البسيطة مع البشر عرف ان شكوى الألم للناس اكثر إيلاما أحيانا من الألم نفسه ولن يعود عليه أي نفع ببث شكواه إليهم غير الشماتة فآثر مجازاة ابتسامة بابتسامة. وسؤال الناس عن احوال بعضهم البعض نفسه لا يقصد منه في كثير من الأحيان لمعرفة الحالة الحقيقية لمن نوجه إليه السؤال وإنما جرى ذلك مجرى المجاملة ولذلك لا ينتظر منك إلا أن نرد المجاملة بمثلها.

فماذا تعني إذا نهاية عام؟ نهاية عام تعني نهاية جزء من حياتنا، وهل حياتنا الا أعمارنا، فكلّما زاد في عمرك عام انتقص من حياتك عام، زيادة في طيّ النقصان. وجزر في ثنايا مدّ.

ارى العيش كنزا ناقصا كل ليلة .. وما تنقص الايام والدهر ينفد.

ولا يقاس بركة العمر بطول عمر الانسان وأيام بقائه في هذه الأرض يغدو ويروح ويأكل وينام ويسخط ويرضى ويسكت ويثرثر، وإنما يقاس بركة عمره بما حقَّق من أماني وخلٌف وآراءه من الأعمال الخالدة وما أفاد للإنسانية في رحلة بحثها عن المعنى في حياتها. وقد كان ابن سيناء يقول في دعائه، ” اللهم اني أسالك عمرا عريضا” اي حافلا بالعطاء والانجازات وإن لم يكن طويلا. وهناك علماء كبار لم يتجاوزوا الأربعين او جاوزوها قليلا في حياتهم ولكنهم حققوا إنجازات مهمة وخلَّفوا اثارا عظيمة تخلد أسماؤهم، ومن هولاء العلماء: معاذ بن جبل الصحابي وعمر بن عبدالعزيز وبديع الزمان الهمداني وابن مظهر وكذلك النووي مات في الخامسة والاربعين مع ما ترك لنا من المؤلفات النافعة المفيدة. وهكذا فكما لا تقاس الأعمار بطولها كذلك لا تقاس الأعوام بكثرتها وأنما بما تحمل في طياتها من الامال وما يحقّق الانسان فيه من الإنجازات.

وماذا بعد؟ لا أريد ان أقول أن عامي كان سعيدا، فهذا كذب محض ولا أريد أن أكذب على نفسي، ومن تعمد الكذب على نفسه فلن يتوقع منه إلا  أن يكذب على الآخرين، ومع ذلك فالكذب من سمة الإنسان، والناس يكذبون لاعتبارات مختلفة، فمنهم من يكذب لمصالح أو منافع يخاف فوتها ومنهم من يكذب لدفع مضرة يخشى وقوعها، ومنهم من يكذب ليس لجلب مصلحة ولا لدفع مصرة وانما يكذب من أجل الكذب فقط لانه مجبول على الكذب. ومن يقول لك أنه لم يكذب طول عمره فاعلم أن قوله هذا نفسه كذبة بيضاء فلا تتعب نفسك عن البحث عن أكاذيبه الأخرى. وما لي ولموضوع الكذب، وتلك من آفات الاستطراد التي أصابتنا عدواها من شينخنا الاديب الجاحظ شيخ المستطردين.

وما ذا كنت أقول قبل هذا الاستطراد؟ كنت أقول انني لم أكن سعيدا في هذا العام كل السعادة ولكنني لم أكن كذلك ساخطا كل السخط، وانما الأيام دول، بوم يسرّ ويوم يسوء، يوم نصيب ويوما نصاب. وليس في دنيانا هذه سعادة محضة ولا شقاوة خالصة، وانما السعادة مشوبة دايما ببعض الشقاء، والأفراح ممزوجة بتباريح الالم. وكذلك الشقاء لا يخلو شيئا من السعادة الخفية والأتراح لا تأتي الا في ثنايا الأفراح. فمن رام سعادة صافية كمن رام الشطط، وتحدى سنن الله في خلقه. ثم ما هي السعادة التي نطلبها ونجري وراءها؟ فكم من سعيد ولكنه لا يشعر بتلك السعادة ولا يقدرها حق قدرها حتى إذا فقدها عرف ما كان فيه من خير عميم ونعمة وافرة، ثم يشتاق إلى تلك الأيام ويبكي عليها. وهل منا من لا يحنّ إلى أيام شبابه وفتوته، ولما كنّا شبابا لم نكن نقدر نعمة الشباب وجماله وحيويته وانما كنّا زاهدين فيه ونجاهر بالشكوى من ظلم الزمان وخطوب الدهر. وهكذا فكل منا يتذمر مما هو فيه من الخير وتشرئب عنقه إلى مجاهل لا يعرف منها شيئا، فنحن كمن يرمي الثمار في يده ويطمح بصره الى الثمار فوف الشجرة.

ثم إن الناس لا يشعرون بالسعادة على طريقة واحدة، وانما يختلفون بشعورها لاختلاف أذواقهم واهتماماتهم. فمنا من يجد سعادته في الفوز بابتسامة جميلة من ثغر حبيبته، ومنا من بجدها في جمع المال، ومنا من يجدها في ترقي المناصب والمناكب، ومنا من يجدها في القراءة والكتابة، ومنا من يجدها في العبادة والتقرب الى الله، ومنا من يجدها في الأكل الشهي والشراب اللذيذ، ومنا من يجدها في إيذاء الناس أو حتى قتلهم وغير ذلك مما لا يحصى من لذات العقل وشهوات الجسد، وكل ميسّر لما خلق. وقد يسعد الجاهل بجهله ويشقى العالم بعلمه كما قال المتنبي:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله .. وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

وقد كان بعض العلماء الربانيين يقولون: لو علم الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليه بالسيوف، ولكن أنى للملوك أن يطمحوا إلى تلك السعادة الروحية التي لا يؤتيها الله الا من أحبّه من عباده، وقصارى ما يأملونه من السعادة تلك المظاهر الزائفة والأبّهة الخادعة وليس ذلك إلا سراب يحسبه الظمآن ماء.

سيقول بعض الناس ما هذا العام الجديد الذي يتحدث عنه الرجل؟ وما شاننا بهذا العام المسيحي ولنا عامنا الإسلامي الهجري؟ فلهم أن يقولوا ذلك وهذا من حقهم، ولنا كذلك أن نكتب في هذه المناسبة التي نراها مناسبة تستحق الكتابة. صحيح، أن العام الميلادي ليس من انتاج حضارتنا الاسلامية والتقويم الهجري هو الذي يمثل تراث وتاريخ أمتنا ولكنني لا أظن أن احدا منا ينكر لما للعام الميلادي من تأثير عملي في حياتنا. وإذا سالت أحدا من هولاء المنكرين أحداثا محددة في حياته فلن يستطيع ذكرها إلا مستعينا بالعام الميلادي، ولن يفكر في التقويم الهجري إلا من رحمه الله. وهذا من آثار طبيعة حياتنا المزدوجة التي نعيشها منذ الأفول الحضاري لأمتنا ولم نستفق بعد من آثار صدمة الحضارة الغازية، مثلنا كمثل من كان غارقا في نومه فسقط عليه سقف بيته ولم يمت ولكنه خرج مصدوما لا يعرف ما حدث له ولم يستوعب بعد الصدمة، فهو في حالة هذر لا يميز فيه بين الغث والسمين وبين الصحيح والسقيم وبين ما يدع وما يأخذ من الدار التي سقط سقفها عليه. نومة شبيهة كنومة اصحاب الكهف ويقظة كيقظتهم، فإن اصحاب الكهف بعد ان لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين إلا تسعا لم ينتفعوا بأوراقهم النقدية القديمة بعد بعثهم فحاروا في أمرهم فتوفاهم الله.

يبدو أن هذا العام لم يكفه ما أصابنا به من الآلام في الأيام والشهور الماضية فحزم أمره على وداعنا بطعنة نجلاء بل بطعنتين، طعنة على مستوى الأمة واُخرى على مستوى الفرد. فالاولى هي الجريمة النكراء التي وقعت قبل يومين في مقديشو ووقع فيها ضحايا كثيرة من أبناء وبنات شعبنا الأبرياء الذين فقدوا ارواحهم الزكية على يد جماعات ارهابية تستلذ بإراقة دماء شعبنا.

كيف احتراسي من عدوي اذا .. كان عدوي بين اضلاعي.

والطعنة الاخرى أنني أصبت بوعكة صحية صرت معها طريح الفراش. أظن ان هذه الطعنة جاءت من شؤم الكتابة عن نهاية عام وبداية عام جديد؛ فإنني بدأت كتابة هذا المقال سالما معافى، وما أن وصلت الى منتصف المقال حتى شعرت بحمّى تنتشر في جسدي، وكأن العام ينتقم على من تسوّل نفسه الكتابة عنه وعن ضحاياه فأرداني متململا على فراشي. ولكنني -والحمد لله- قد هدأت عني اليوم لفحة الحمى. واكملت كتابة مقالي وان كنت قد نسيت افكارا كنت اريد كتابتها في اول الامر. فمن عادتي انني اذا بدأت كتابة مقال احب ألا أتوقف حتى أكمله، فاذا توقفت لامر ما، فان ذلك يؤثر تسلسل الافكار في ذهني وأنسى أشياء كنت اريد ان اقولها.

ختاما، أرجو لكم – ايها الاخوة والاخوات – عاما طويلا عريضا مليئا بالمسرات حافلا بالانجازات مفعما بالخيرات، إنه على ما يشاء قدير.

 

عبد الواحد عبد الله شافعي

كاتب صومالي من مواليد بورعكر حاصل على درجة الليسانس في الدراسات الإسلامية واللغة العربية من كلية الدعوة في ليبيا في عام ١٩٩٤. نال دبلوم ماجستير في اللغة العربية وآدابها من الكلية نفسها في عام ١٩٩٦. حصل على ماجستير في اللغويات وتعليم اللغات الأجنبية من جامعة لندن متروبولتان في بريطانيا في عام ٢٠١٦. يعمل في خدمة الجاليات المسلمة في بريطانيا. له مقالات وبحوث فكرية وسياسية منشورة في الصحف والمواقع العربية. يهتم بالثقافة وقضايا الفكر السياسي عامة والإسلامي خاصة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى