عنصري ضد العنصرية..!
يُحسب للرئيس الراحل سياد بري بأنه حاول القضاء على القبلية من خلال دفنها في مشهد استعراضي دكتاتوري جمع فيه جميع أطياف الشعب المتباينة قبلياً، وقرأ عليهم شهادة الوفاة على وقع أصوات الجماهير المؤيدة وغير المتأسفة على موت القبلية المتأخر؛ ولكن في واقع الأمر لم يكن في الأمر أي موت، فكل ما فعله (بري) لا يخرج من كونه تغييب القبلية، وجعلها في طور الكمون والسكون، بدلاً من أن تكون أمام العيون، فما أن تهاوى حكمه قليلاً حتى قام الميت من مدفنه المؤقت مهرولاً إلى قصر (بري) لتكون نهاية الرئيس على يد الميت الذي دفنه بيديه، في تراجيديا مؤلمة دفعت الجميع لأن يتساءلوا.. أين أخطاء ( بري) ؟ لماذا لم تنفع خطبه العصماء، و لماذا لم تنجح إستراتيجيته الطويلة في خلق روح من المساواة الحقيقية، ونيتة الصحيحة بين أبناء شعبه رغم امتلاكه جميع أدوات التغير الممكنة؟
وهذا يدعونا إلى مراجعة تاريخ القبلية في الصومال، فهو تاريخ طويل ومتجذر يرتبط بشكل أولي بوجود الإنسان الصومالي؛ فهي عنوانه الذي يعترف بها الجميع، فكل المحاولات الدينية والسياسية بعد ذلك للفصل بين الإنسان الصومالي وانتمائه القبلي بطريقة حاسمة ونهاية تبوء بالفشل.
فعلى سبيل الذكر كان الحضور في مشهد الدفن يعلم ذلك علماً يقيناً بأن الأمر لا يعدو كونه تمثيلية سوف تنتهي، وإن طال الزمن، فكانت النهاية متوقعة، وإن بدت صادمة في نتائجها، وليس علمهم ذاك من باب علم بالغيب، أو امتلاكهم على قدرات خارقة في الاستبصار وقراءة المستقبل، وإنما نابعة من حقيقة لا ينكرها أحد بأنه في داخل الصومالي درجة من القبيلة والنظرة العنصرية للآخر المختلف، هذه الدرجة ترجمناها بالتوزيع السياسي، والاستحقاق الوظيفي القائم على نظام المحاصصة القبلية، لا على الكفاءة والمهنية.
فلا تستغرب إذاً أن ينادي مرشح رئاسي بمنع أي مواطن يريد أن يدلي بصوته بحجه عدم نقاء انتمائه القبلي؛ فيُسمع هناك من يصفق له ويلقبه بالحكيم، ولا تتعجب أن يسجل إنسان فيديوهات يشاهدها مئات الآلاف هو يتشفى على قبيلة، ويتحامل على أخرى، ويصدر أحكام قطعية على حمق وغباء قبيلة أخرى، وبعد كل ذلك يُستقبل في المطارات وهو يُقطر حتى أخمص قدميه عنصرية على أنه – رغم كل شيء – رجل لا يقول إلا الحقيقة.
الكيل بمكيالين هو أن نتألم من كلام “عبد الولي غاس” علناً، ونجد له الحذر في جلساتنا الخاصة، وأن نستهجن مقتل عمُّ الشاب بحفلة زواج للعاشقين ببهرجة إعلامية متكلفة، وفرحة انفعالية متطرفة، وبابتسامة صفراء منتزعة من رحم أم مسجونة، وعلى جثة عمٍّ محترق، في دراما رومانسية حالمة كتبت نهاية جميلة لقصة توقفت في الواقع عند الحلقة الأولى، فحيلة إظهار بان الحب فوق كل الفروقات ليس بالأمر السليم لقضية لها جذور جنائية، وحتى وإن لم يكن في الأمر أي جريمة، فصورة الانسجام القلبي في قصة الحبيبين أبعد من واقعنا بكثير.
نحن في الحقيقة ندور في دوامه من الازدواجية القاتلة بين ما يلتزم به الإنسان الصومالي مع نفسه من قيم ومبادئ ومفاهيم المساواة، وبين التزامه نحو مجموعة بشرية أكبر يُعدُ جزءا منها، فهو بطل ومناضل شرس ضد العنصرية عندما يكون الحديث صاخبا وعلنيا، ومطبل لها ومرتدي جلبابها إذا كانت المعركة تستهدف محيطه وعالمه القبلي وتهدد وجوده، وذلك في موقف أقرب ما يمكن أن يقال عنه بأنه عنصري ضد العنصرية.. !
بقلم: أ – فاطمة حوش
“نحن في الحقيقة ندور في دوامه من الازدواجية القاتلة بين ما يلتزم به الإنسان الصومالي مع نفسه من قيم ومبادئ ومفاهيم المساواة، وبين التزامه نحو مجموعة بشرية أكبر يُعدُ جزءا منها، فهو بطل ومناضل شرس ضد العنصرية عندما يكون الحديث صاخبا وعلنيا، ومطبل لها ومرتدي جلبابها إذا كانت المعركة تستهدف محيطه وعالمه القبلي وتهدد وجوده، وذلك في موقف أقرب ما يمكن أن يقال عنه بأنه عنصري ضد العنصرية.. !”
من الصعب التعبير بوصف الحالة الإجتماعية الصومالية بأبلغ من ذاك. بارك الله في قلمك أختاه