عيد الاستقلال … مزرعة الأحرار.
عيد الاستقلال … مزرعة الأحرار.
كانت الحيوانات تعيش في مزرعة واسعة خصبة كثيرة المراعي وافرة المياه تسرح وتمرح حيث شاءت ومتى شاءت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا، تدبر أمورها بنفسها مستلهمة نظم وأعراف أجدادها الاولين من الحيوانات حيث يوقر الصغير الكبير ويكون لكبار السن منزلة مرموقة وكلمتهم مسموعة بحكم تجاربهم التي اكتسبوها خلال رحلة عمرهم المديد. قد تقع بين الحيوانات مناوشات ومطاردات، وهذا شيء طبيعي يحدث عادة بين كل جماعة يربطها العيش المشترك في مكان واحد، ولكن مصالحها قد تختلف أحيانا باختلاف طبائعهم وحاجاتهم، فحاجات الأغنام تختلف عن حاجات الدجاج كما أن حاجات الأبقار تختلف عن حاجات الطيور وهلم جرا. وكلما يقع شجار بينهم تدخل زعماء فصائل الحيوانات لفض النزاع ويعقدون صلحا بينهم مذكرين بوشائج الاخوة والقربى بين المتخاصمين.
وبينما هم على هذه الحال أغارت ذئاب على المزرعة واستولت عليها ودخلتها عنوة بحجة تأمين المزرعة وحمايتها وتعليم الحيوانات فيها وتربيتهم على القيم الحيوانية الفاضلة بقصد تمدينهم وتحضيرهم. وهكذا استأثرت الذئاب بالمزرعة ومن فيها ونصبت نفسها ملكا على أصحاب المزرعة وسخرت جميع قاطنيها لخدمة مصالحها. سُقط في أيدي الحيوانات وشعروا بالغبن وما يتعرضون له من الاهانة على أيدي الذئاب المغيرة وسلبهم حقوقهم المشروعة في مزرعتهم.
تداعت الحيوانات إلى عقد اجتماع سري للتشاور في الأوضاع المستجدة في المزرعة. تناقش المجتمعون فيما يتعرضون له في عقر دارهم من ظلم وأذى وغطرسة الذئاب واستئثارهم بخيرات مزرعتهم. أيقن الجميع أن السيل قد بلغ الزبى ولا بد مما له من بد. حينها وقف كبش كبير الرأس قوي البنية تبدو عليه جلال الهيبة ورزانة الوقار. فقال: أيها الاخوة، معاشر الحيوانات اسمعوا مني ووعوا، فكما في الآثار أنه ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا اصيبوا بالذل والهوان، وها نحن أصبحنا عبيدا في مزرعتنا بعد أن كنّا أسيادا فيها، وليس أمامنا إلا طريق واحد لرفع هذا الظلم عن كاهلنا ألا وهو طريق المقاومة، فانه لا يفل الحديد إلا الحديد. وهنا بدأت حركة الكباش للمقاومة التي ألحقت الغازين بخسائر فادحة في الأرواح وهزيمة نفسية ولكن الذئاب استجمعوا قواهم وتمكنوا بعد جهد جهيد من اخماد حركة الكباش.
ولكن المقاومة التي بدأتها حركة الكباش لم تتوقف. اذ أخذت الثيران الراية ودعت إلى عقد مؤتمر سري للتشاور بين الحيوانات. وقف ثور واسع الصدر عظيم الجمجمة متين الظهر قوي العضلات ينمّ مظهره عن بأس شديد وعقل راجح، خطى خطوات الواثق بنفسه حتى استوى قائما في وسط الجماعة فقال: ايها الاخوة، إن الرائد لا يكذب أهله وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، نحن أصحاب قضية عادلة والنصر سيكون حليفنا، ولكن لا بد من توحيد الصفوف لمجابهة العدو وهزيمته فانه ليس قوة كالوحدة ولا ضعف كالاختلاف والتفرق ثم هتف وحدة وحدة، فهتفت الحيوانات وراءه وحدة وحدة، حرية حرية فردوا وراءه حرية حرية ثم تعاهدوا على المقاومة حتى النصر أو الشهادة.
تلقى المجتمعون كلام الثور بحماس شديد وشكلوا جبهة مقاومة بقيادة الثيران التي نظمت صفوف الحيوانات وتوزعت على مجموعات صغيرة تباغت العدو في حروب استنزافية وبدأت عملية مقاومة شرسة ضد الذئاب، فكل يقاوم بما عنده من السلاح، فالثيران تحارب بقرونها والكباش بنطاحها والطيور بمنقارها والقطط بأظافرها والهدهد بجمع المعلومات عن العدو والحمير بالنهيق والقرود بإسعاف الجرحى ونقل الشهداء. ضاقت على الذئاب الأرض بما رحبت وظنوا أنه لا مفر من الرحيل وأيقنت أن معاشر البهائم حازمة أمرها عازمة على تحرير مزرعتها ولا ينفع معها الوعيد ولا التهديد ولا تبالي بالموت في سبيل حريتها وكرامتها. رفع الذئاب الراية البيضاء وارتحلوا من المزرعة المسلوبة وأعادوها الى أصحابها مكرهين عن يد وهم صاغرون.
كان ذلك يوما مشهودا توافدت فيه الحيوانات من كل حدب وصوب للاحتفال لهذا اليوم العظيم الذي استعادوا فيه مزرعتهم واستردوا فيه حريتهم بعد كفاح طويل وشاق ضحوا من أجله النفس والنفيس، يهنئون بعضهم بعضا ويرقصون في الشوارع وينشدون أناشيد الحرية. ظهر الثور من وسط الجمع ملوحا بيديه فيما يشبه شارة النصر ووقف على المنصة وبدأ خطابه بالتكبير فكبٌرت الحيوانات وراءه، ثم قال معاشر الحيوانات: صدق من قال ما ضاع حق وراءه مطالب، وها نحن اليوم نجني ثمار صمودنا أحرارا ومزرعتنا ملكا خالصا لنا ومصيرنا بايدينا ونحكم أنفسنا بأنفسنا، ثم نزل عن المنصة. هنا وقف الأرنب على المنصة وتكلم قائلا: إخواني معاشر الحيوانات، قبل الحديث عن الحكم لابد من وضع دستور يفصل واجبات الحكام وحقوق المحكومين على قواعد يرتضيها الجميع حتى نسلم من التظالم. ضجت القاعة بالتصفيق تأييدا لرأي الارنب.
بعد وضع الدستور وتبيين الحقوق فيه شرعت الحيوانات في اجراء اول انتخابات حرة في تاريخهم. فاز حزب الخراف في الانتخابات ووعد الحيوانات بالحرية والعدالة والمساواة. لم يمض وقت غير طويل حتى شعرت الحيوانات بالغبن والإجحاف. نعم، لقد أعطى الخراف الحيوانات نوعا من هامش الحرية ولكنها حرية مفروغة من مضمونها ولا يصاحبها تحسين أحوالهم المادية والمعنوية، بل إنهم اكتشفوا أن الخرفان لا تهمهم المصلحة العامة للحيوانات وإنما يرعون مصالحهم ومصالح أقربائهم من الخرفان فقط. هنا فقدت الديمقراطية والانتخابات معناها فليست الانتخابات مجرد صندوق توضع فيه أوراق الانتخابات وإنما هي قبل ذلك وبعده عملية تغييرية شاملة في النفس والفكر. وشيئا فشيئا خبأ حماس الحيوانات وشعروا بالخيانة ورأوا أحلامهم قد أجهضت وآمالهم قد بددت.
أدرك الثيران يأس الحيوانات وسخطهم على حكم الخرفان فخططوا للانقلاب على الخرفان والاستيلاء على المزرعة بالقوة. وهذا ما كان. خرجت الحيوانات إلى الشارع مرحبين بثورة الثيران. قرأت الثيران البيان الأول وأعلنت إنهاء حكم الخرفان وتدشين مرحلة ثورية يقودها الثيران لا دستور ولا أحزاب ولا سياسة ولا صوت يعلو فوق صوت الثيران. هلل الجميع وصفقوا وأنشدوا أناشيد الثورة. وللحق والتاريخ، اجتهد الثيران في السنوات الأولى من حكمهم ونجحوا في انجاز مشاريع تنموية في المزرعة إلا أن الغيوم بدأت تنكشف رويدا رويدا وخرب الثيران انجازاتهم بأيديهم وحولوا المزرعة كلها إلى سجن كبير. بدأت الحمامة حملة توعية كبيره في أوساط الحيوانات للتعريف بحقوقهم المشروعة وسبل نيلها.
ماجت الحيوانات وهاجت واضطربت وطالبت بالعودة إلى حكم الخرفان ورفض الثيران مطلبهم واستأثروا بحكم المزرعة وخيراتها وأوعدوا القتل أو السجن لكل من تسول نفسه التطاول على مقام الثيران. سُقط في أيدي الحيوانات مرة أخرى وأدركوا أنهم ليسوا بأحرار بعد وأنهم حرروا المزرعة من الذئب الأجنبي ولكنها وقعت في أيدي الذئاب من بني جلدتهم. قررت الحيوانات تدشين مرحلة جديدة من حرب التحرير ولكنهم أخطأوا خطأ قاتلا حينما فشلوا في تنظيم صفوفهم في جبهة واحدة لتحرير مزرعتهم ونيل حقوقهم مثلما فعلوا في المرحلة الاولى من التحرير. أنشات كل فصيلة من فصائل الحيوانات جبهة خاصة لها في حربها ضد الثيران. شن البغال حروبهم من الشمال وبدأت العجول حملتهم من الجنوب وهناك جبهات دون ذلك للحمير والكلاب والفئران والأرانب.
بعد صراع مرير مني فيه الجميع بخسائر فادحة في الأرواح والممتلكات نجحت العجول في دخول المزرعة وإسقاط حكم الثيران ولكنهم فشلوا في السيطرة على الأوضاع الأمنية والدعوة الى سائر الحيوانات من الحمير والبغال والأرانب والفئران والكلاب للمشاورة في أمر المزرعة. ويظهر أن العجول فكروا في أن يحذوا حذو الخرفان والثيران ويستاثروا بالمزرعة وخيراتها كما استأثروا هم بها من قبل. خاض معاشر الحيوانات منذ ذلك الوقت في أتون حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، فالعجل والحمير والأرانب والقطط والكلاب كلها تريد الاستيلاء على المزرعة والاستئثار بمنافعها وأدى ذلك كله الى هجرة جماعية للحيوانات وتفرقهم شذر مذر في الآفاق واللجوء إلى مزارع أخرى أكثر أمنا لحيوانات مثلهم ولكنها أكثر تعقلا وأحسن تنظيما.
بعد أكثر من عقدين من الاقتتال والتناحر والتيه والضياع ارتأت الثعالب والذئاب ذوات المصالح المشتركة في المزرعة لعقد مؤتمر مصالحة بين فصائل الحيوانات لاقناعهم بتنظيم مزرعتهم والتعايش السلمي فيما بينهم ولكنهم لم يقبلوا ذلك إلا بشرط واحد وهو أن كل واحد منهم يريد أن يكون زمام الأمور في المزرعة بأيديهم؛ لأنه الأحق بالقيادة لفضله على سائر الحيوانات. فالعجل يتباهى أنه ذكر في القران عشر مرات، وقد عبده بنو إسرائيل وجعلوه إلها لهم حين رفضوا إله موسى عليه السلام. والثور يستدل بأحقيته في الحكم على أن الارض كلها ومن فيها وما عليها على قرنى ثور كما ورد في الأثر؛ فإذا كان مصير الارض كلها ومن عليها محمولة على قرني فلا أدري لم تستكثرون عليّ حكم مزرعة فيها مجموعة من الحيوانات.؛فقالت الحمامة لو لم يكن لى فضل غير أن وقعت على غصن الشجر على باب الغارة التي دخل فيها الرسول وصاحبه يوم الهجرة لتمويه الكفار وتضليلهم لكان ذلك فضلا كافيا لأحقيتي في الحكم. فقال الحمار: ما افتخرتم به كلكم لا يذكر إذا ما قورن بما منّ الله عليّ من فضل إذ أماتني الله بمرأى من العزير ليريه كيف يحيي الله الموتى وتشتت عظامي ثم جمعها الله وكساها لحما، فهذا يعني أنني جربت الحياة بعد الممات وقبل الممات، فأيكم له تجربة كتجربتي وعرف احوال الآخرة واحوال الدنيا. وهكذ يذكر كل حيوان أو طائر فضله وأحقيته في القيادة.
وبعد أن تعذر اتفاق معاشر الحيوان على اختيار رئيس واحد في مزرعتهم وذلك لتعمق الشكوك وفقدان الثقة فيما بينهم اقترحت الثعالب والذئاب بتنصيب رئيس اسمي في المزرعة الوسطى ثم تقسيمها إلى ستة كانتونات وتوزيعها على الخيل والحمير والأرانب والكباش والدجاج على طريق المحاصصة الحيوانية وكل كانتونة سيكون لها رئيسها ووزراؤها ومجالسها البرلمانية فلا رئيس هنا ولا مرؤوس فاقتنعوا إلا البغال التي أصابها الإحباط خلال تجربتها الأولى المريرة مع حيوانات المزرعة وقررت النأي بنفسها من باقي الحيوانات في المزرعة سواء وجدت الاعتراف من قبل الثعالب والذئاب أم لم تجد، هذا فراق بيني وبينكم.
وهكذا الحيوانات انتهوا بعد كل هذه الآلام إلى أوضاع مزرية يتمنى كثير منهم لو أنهم يعلمون الغيب لما ثاروا على الخراف والثيران. صارت مزرعتهم خربة ذات أكل خمط وَأَثْل ويعيث الجراد فيها فسادا وباقي الحشرات. ما زالت الحيوانات ترفع شعار الحرية والعدالة والمساواة والكرامة ولكنها باسم الحرية استعبدت وباسم العدالة ظلمت وباسم المساواة أجحفت وباسم الكرامة أهينت وباسم الاستقلال سلبت إرادتها. ولا ريب في أن الحيوانات فقدت البوصلة ومستقبلها مظلم ينذر بالخطر. تقول الحمامة أنه من العبث الكفاح من أجل تحرير المزرعة دون تحرير ساكنيها، فتحرير ساكن المزرعة وتوعيته بحقوقه وإشعاره بإنسانيته وكرامته هو اللبنة الألى لإيجاد مزرعة حرة يعيش فيها الجميع بأمن وامان ويشعر فيها بالحرية والكرامة.
يبدوا – وما زال الحديث للحمامة -أن أزمتنا ليست في حكم الخراف ولا في سلطة الثيران ولا في نفوذ غيرهم من العجول والحمير وانما في فهمنا للدولة التي جلبها الذئاب إبان احتلالهم للمزرعة حيث لم يكن لمعاشر الحيوانات قبل سطوة الذئاب معرفة بالدولة ومعناها ومغزاها وإنما كان هناك زعيم لكل فصيلة من فصائل الحيوان. وحينما أرادوا ان ينتقلوا إلى نظام الدولة بعد رحيل الذئاب اختزلوها بجانبها الهيكلي وتركوا روحها كآلية لتجاوز الهويات الفرعية الضيقة إلى فضاءات أوسع وأعم، والدولة هنا تعمق الانقسام بدل التوحيد وترسخ الانتماءات الفرعية بدل إدماجها في هوية أوسع. وتختم الحمامة قولها بقصة الغراب الذي أراد تقليد مشية الحمامة وقام بجهود جبارة فلم يفلح ثم قرر أن يرجع إلى مشيته الأولى فَنَسِي ولم يقدر فأصبح يمشي مثل الأعرج. نحن معاشر الحيوانات حالنا شبيه مثل حال هذا الغراب، فلا نحن بقينا على نظامنا التقليدي القديم ولا نحن أحسنّا تقليد نظام الدولة الحديث للذئاب فأصبحنا نمشي عرجا على نظم هجينة أقرب الى أنظمة عصابات منه الى أنظمة سياسية.
ومهما يكن من أمر، فان شوقنا إلى الحرية والكرامة والعدالة لن يتوقف رغم العراقيل والنكسات والإحباطات.