الأدب والفنمقالات

معارك العقاد الأدبية.. قيمة ثقافية فكرية

عباس محمود العقاد (1889-1964) أديب، ومفكر، وشاعر وبرلماني مصري وعضو في مجمع اللغة العربية، ويعد الراحل أحد أبرز كتاب القرن العشرين في مصر والعالم العربي، وأضاف للمكتبة العربية أكثر من مائة كتاب في مختلف المجالات، امتاز العقاد عن أدباء عصره (شوقي وطه حسين والمازني) بجرأته النادرة ومعاركه السياسية والفكرية التي خاضها طوال حياته، وأحاول في هذا المقالة أن أتناول جزءا من الحكايات النادرة والشهيرة لمولانا العقاد (لقب كان مريدوه ينادونه به) ومما رواه المقربون منه تشدده المبالغ فيه في المواعيد، وعصبتيه وكذلك تعاليه في بعض المواقف، ولعلّ شكواه من المصران الغليظ كان سببا لحالته العصبية.

سيرة العقاد:

ولد في مدينة أسوان؛ التحق العقاد بالمدرسة الابتدائية، ولكنه لم يكمل تعليمه، واكتفى بهذه المرحلة فقط، ولم يستطع لظروف أسرته البسيطة ماديًا أن يذهب إلى القاهرة للتعليم مثل الأعيان، ولكن بذكائه الحاد، وإصراره على التعليم والثقافة في شتى أنواع العلوم والمعارف العربية والأجنبية، استطاع أن يتعلم اللغة الإنجليزية من سياح مدينة الأقصر وأسوان مما أتاح له الفرصة للاطلاع على الثقافات الأجنبية.

ذهب إلى القاهرة، وفيها عمل بالصحافة؛ حيث تتلمذ على يد أعظم المفكرين وقتها، ثم أسس مدرسته الأدبية الخاصة بالتعاون مع زميليه، وكانت هذه المدرسة الأدبية تعني بالتجديد في الشعر والتحرر من القالب التقليدي له، وكان ينفق الكثير من المال على شراء الكتب لشدة ولعِه بالقراءة والتعليم.

التحق للعمل بعدة وظائف حكومية في المديريات، ثم مصلحة التلغراف، وديوان الأوقاف، وكان يستقيل منها؛ فهي لا تحقق له التجدد والطموح الذي يسعى إليه، وعمل أخيرًا بمجال الصحافة؛ حيث أصدر صحيفته الخاصة مع زميلِه، وقد تمكن من خلال عمله بالصحافة الدفاع عن حقوق الوطن والمطالبة بالحرية والاستقلال، ثم انتخب في مجلس النواب.

 وبعد فترة قصيرة سُجن مدة تسعة أشهر بتهمة التحريض والعيب في الملك، ثم اتجه بعد ذلك للحرب الفكرية ضد النازية أثناء الحرب العالمية الثانية حتى وضع اسمه بين المطلوب القبض عليهم، مما اضطره للهروب إلى السودان عام 1943م، ولم يعد إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية .

حكايات العقاد الأدبية:

تعددت معارك العقاد الأدبية التي تدل على شخصيته الأدبية المستقلة، فمنها على سبيل المثال : المعركة بينه وبين الرافعي حول إعجاز القرآن وطبيعة اللغة، ومعركته مع الدكتور طه حسين حول أبي العلاء المعري، ومعركته مع الشاعر جميل صدقي الزهاوي في الموهبة الشعرية بين الملكية الفلسفية العلمية والملكية الشعرية، ومعركته مع محمود أمين العالم، وعبد العظيم أنيس في وحدة القصيدة العضوية والموضوعية.

لم يكن العقاد أستاذا جامعيا فقد توقف تعليمه عند الابتدائية لكنه تفوق على أساتذة الجامعات وحاز إعجاب آلاف من أهل الفكر والأدب، ويقال إنه كان يحتقر أساتذة الجامعات، ويزعم أن ما حصلوا عليه من شهادات لا تفترق عن ورق اللحم بشيء. ولما قيل له إن جامعة القاهرة ستمنحك الدكتوراه الفخرية قال ساخرا: ومن الذي يستطيع أن يمتحن العقاد؟!
وسخرية العقاد واستخفافه لم يسلم منها حتى المثقفون الكبار، ومن المواقف الطريفة للراحل ما دار في قاعة مجمع اللغة العربية، كان المجمع اللغوي يناقش معاني الكلمات ودلالتها عن الزمن والزمان والدهر والأبدية والسرمدية، وسئل الدكتور منصور باشا فهمي – وهو رجل لطيف ومهذب ورقيق جدا – عن الفرق بين الزمن والزمان؛ فرد بالإجابة التقليدية بان الزمن محدد والزمان غير محدد.. الخ.

عندها انفجر العقاد ضاحكا ساخرا وقال إذا كان الزمان كلمة أطول من الزمن فهل تقترح يا باشا أن نجعل الألف تمتد إلى ما لا نهاية هاها..هاها.. وضجّت القاعة بالضحك وغضب منصور باشا..
لم يحاول العقاد ترضية الباشا أو الاعتذار له لكن أنيس منصور الفيلسوف وتلميذ العقاد الأثير حاول أن يخفف من وقع هذه الصاعقة.؛ فقال لا فرق بين الزمان والزمن. كلها لحظات محسوبة، وهي إذا قورنت بالخلود والأبدية فهذه أطول وهذه أقصر، ولا بد أن نعود في هذا الرأي إلى علماء الفيزياء هم الذين يقيمون الزمن. وهم الذين يقولون ما قاله أينشتين من أن الزمن هو البعد الرابع للطول والعرض والارتفاع، ولسنا الذين نحكم في مثل هذه القضايا.

ومن مواقفه أنه عندما فاز الروائي الأمريكي جون شتاينبك بجائزة نوبل في الآداب عام ‏1962‏ عن روايتيه الأشهر (في مغيب القمر‏)‏ و‏(‏شتاء السخط) هاجم العقاد لجنة تسليم الجائزة قائلا إن اعتبارات سياسية سبب فوز شتاينبك بالنوبل، وأنّ في مصر من هم أفضل من شتاينبك مثل نجيب محفوظ الذي يستحق الجائزة أكثر منه، كانت حادثة دالة على عبقرية العقاد وبعد نظره؛ حيث تحققت نبوءته بعد أكثر من ربع قرن في عام1988 ، اللافت أن ثناء العقاد على محفوظ كان شيئا غير عادي، فالعقاد ذو الكبرياء كان نادرا ما يثني على أحد، وقد تأثر محفوظ كثيرا بهذا الموقف من العقاد, لاسيما أن العقاد ممن انتصر للشعر على حساب الرواية، ورغم قسوة مولانا أحيانا وتعاليه في بعض المواقف إلا أنه ملك قلوب الكثيرين من أهل الأدب، وأذكر أنا شخصيا أنّ مدرسنا في ثانوية سخاوى الدين بحي شِبٍسْ العريق الأستاذ محمد موسى أبو جبل، مصري من طنطا كان يشرح لنا مقتطفات من كتاب “الأيام” رائعة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين و”الأيام” في ذاك الزمن الجميل كان مقررا يدرس في الثانوية العامة؛ لكن الذي حدث أن مدرسنا أبو جبل كان ينسى نفسه ويضع المقرر جانبا ويخوض في الحديث عن العقاد بحماس لا يعرف الفتور.

وقد اشتهر بسلسلة من المؤلفات عرفت باسم العبقريات، فألف عن عبقرية النبي محمد – صلّ الله عليه وسلم – ومجموعة من عبقريات الصحابة مثل: الإمام عليّ، وعمر، وعثمان، وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم، وله رواية واحدة فقط تسمى سارة .
رحم الله عباس العقاد؛ لقد كان فلتة قلمّا يجود الزمان بمثله.

عبد الرحمن غوري

كاتب وباحث في الأدب والفلسفة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى