نظرية الطست في المخ الصومالي
في مسرحية “الزعيم” الشهيرة يظهر الممثل عادل إمام كقائد ملهم يقوم باستعراض قدراته العقلية أمام مجموعة من وزرائه الذين ليس لديهم سوى خيار الإطناب والتصفيق الحار لكل كلمة يتفوه بها الزعيم، فيسخر من قلة فهمهم ونظرتهم السطحية للأمور، ويزعم بوجود غباء مستديم ومتجذر في نافوخهم (أدمغتهم) ذلك؛ لأنهم رضوا بالواقع الهزيل والمزري الذي يعيشون فيه ولم تسول لهم نفوسهم بالتصدي له ومحاولة تغييره.
هذا الموقف الكوميدي يختزل صورة الواقع والوضعية المأزقية التي تعيش فيها شعوب الدول المتخلفة، وتحكى عن حالة عدم التوازن النفسي للإنسان المقهور. لنترك قليلا عن هذه اللقطة الكوميدية المضحكة، وحتى لا نشغل القارئ الكريم عن الموضوع الذي نريد النقاش حوله نكتفي بهذا القدر.
ثمة ظاهرة مجتمعية حضارية أو إن شئت قل، مأزق سلوكي يحتاج الى دراسات مستفيضة وبحوث علمية معمقة تتمثل في فهم السيكولوجية والنمط التفكيري للقومية الصومالية. هل هي أمة أو عرق سامي يمتلك قدرات عقلية فائقة مقارنة مع المجموعات العرقية الأفريقية الأخرى، كما يزعم البعض؟ أم إنها مجموعة عرقية بدائية تعيش خارج الحضارة، ولا تصلح لمواكبة تطورات الحياة؟! أم ماذا؟! إنها أسئلة يصعب الإجابة عنها في هذه العجالة؛ ولكنها بقدر ما هي مأزقية قد تساعد في تطوير الاقتراب الأمثل لفهم هذه الظاهرة المعقدة.
وبحسب رأي الكثير من علماء الأنثروبولوجيا والرحالين والمستكشفين الذين زاروا منطقة القرن الأفريقي، كابن بطوطة والمستكشف الإنجليزي ريتشارد بيرتون وغيرهم الذين تتوافق كتاباتهم حول الصوماليين بذكر صفات الشجاعة والبأس في الحروب، الكرم ، التجارة والشعر وفصاحة الكلام اللذين وصفهما ريتشاد في كتابه “الصومال المتخيل” بأنها أمة من الشعراء، وهو يبدي دهشته من أن لغة غير مكتوبة تبلغ هذا المدى من الفصاحة والبلاغة..وكل هذا وأكثر وما سطرته الأقلام في بطون الكتب عن البطولات والأمجاد وعن تاريخ الإرث الحضاري الصومالي العتيق لا تتكفل في الإجابة عن صيحات الواقع المرير الذي تعيش فيه هذه القومية، ويضع الكثير من علامات الاستفهام على صفحات تلك الكتب!
يقول الأمير شكيب أرسلان في كتابه لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم “الأمم كالأفراد، تمر بها صنوف الاختبارات وتطيف بها أنواع البلايا، وتتقلب في حياتها بين أدوار العز والاستكانة والغلبة والمهانة، ومن خلال صمودها في هذه الأدوار، وحفاظها على القيم، يجرى تصنيف الأمم في قائمة المتخلفين أو الناميين أو المتفوقين”
ومن هذا المنظور فإن ما يحدد مصير الأمم هي نفسها التي تملك خيار البقاء في أوحال التخلف والرجعية أو التبوء في الصدارة لتحقيق غايتها الأبدية في خلافة الكون وإعمار الأرض بصناعة الحضارة؛ إذ لم يحدث أبدا أن تقدمت أمة من الأمم بينما تمارس الكسل وإلقاء كافه الاتهامات على الآخرين على أنهم السبب في تخلفها وتقاعسها بل لأنها لا تقوم بما يكفى من العمل والجهد الذي ينجز تنميتها ويحقق تقدمها ورفاهيتها.
إن عقلية المجتمع وطريقة تفكيره هما ما يصنع ملامح شخصيته القومية وسلوك أفراده، وليس هناك عنصر أو عرق أسمى من الآخرين، فالمثابرة والعمل الدءوب هما أساس كل تقدم الأمم. فالأمة التي تحمل معها أفكار العصر الحجري وتريد مواكبة العالم المتطور بأفكارها التقليدية تلك، تستحق أن توصف بالأمة المريضة. إن طريقة تفكير أمتنا الصومالية تحتاج إلى تغيير بل إلى طست وغسيل لأمخاخها ونوافيخها، لا بالكلوركس طبعا، ولكن بالعلم الذي هو سر تقدم كل الشعوب، وعندما نقول التعليم لا نعني به كثرة أسماء الجامعات والمدارس وإنما التعليم الجيد الذي يؤهل جيلا مثقفا قادرا على صناعة النهضة والتقدم، فالسر وراء تقدم النمور الاقتصادية كما فى حالة ماليزيا ، وكوريا الجنوبية ،وسنغافورة والهند وتايوان والصين والبرازيل وتشيلي وجنوب أفريقيا هو التعليم كمدخل أساسي لعملية التنمية؛ لأنه لا يمكن أن يحدث تقدم بدون إنسان واع متعلم.
هناك أيضا عقلية بليدة تحتاج أن تحذف من قاموس الأمة الصومالية، إذا أرادت أن تغير ما بها وهي التفاخر والتباهي بالأوهام التي ليس لها وجود في الواقع أو أنها موجودة لكنها أشبه ببيع ما لا يملك. كلنا متعودون على الأسطوانة المشروخة التي نرددها، وهي أن الصومال بلد غني لديه موارد طبيعية زاخرة، احتياطي نفط غير مكتشف، غاز..معادن بمختلف الأنواع، ثروات حيوانية وسمكية هائلة، وغيرها الكثير من الألحان والسيمفونية الجميلة التي لا تسمن ولا تغني في شيء؛ لكننا للأسف ما نراه في الواقع هو أن اسم الصومال مقرون بالمجاعة والكوارث البشرية. فأين تلك الخيرات والثروات في صرخات الأطفال التي أفجعت العالم والذين سقطوا ضحايا المجاعة؟! صحيح أننا بحاجة إلى أن نلجأ لكافة الوسائل الإيجابية لتحسين صورة بلدنا التي اهتزت أمام العالم؛ لكن هذا لا يعني أبدا أن نضحك على ذقوننا وننوِّم أنفسنا مغناطيسيا للهروب عن الواقع المتهالك.
بالطبع، المشكلة ليست بمعيار وحجم الثروات التي يتمتع بها بلد ما، بقدر ما هي العقول البشرية القادرة على استغلال تلك الموارد والثروات. فاليابان مثلا بلد فقير من حيث الموارد الطبيعية، وتعرض لأبشع وأخطر هجوم نووي على مر التاريخ دمر مدنه وخلف مئات آلاف القتلى من سكانه؛ إلا أن اليابان برغم كل هذا نهضت وأصبحت من كبرى اقتصاديات العالم، والسبب هو فقط بفضل العقول وجهود المواطن الياباني التي لا تعرف الكلل والملل. إنها معادلة بسيطة ” اعمل ثم اعمل تنهض”
إن الملاحظ لحالة اليابان يجد أنها قيدت التراث، ولم يقيدها التراث، بمعنى أنها أبقت التراث شكلا وأعطته مضمونا جديدا يتناسب مع العقلية الحديثة المكتسبة، فالولاء للإمبراطور مثلا تحول إلى ولاء للوطن، والتفاني في خدمة السيد أو القبيلة تحول إلى تفاني في خدمة الإنتاج، وهكذا، بمعنى أن مبادئ الولاء والتفاني، وهي مبادئ تراثية يابانية بقيت شكلا واختلفت مضمونا. وهذا بكل تأكيد مما نحتاج إليه أن نقيد التراث (القبيلة في الحالة الصومالية) وليست أن تقيدنا.
إن أي أمة لا تتقدم لابد أنها تتأخر عن ركب الحضارة ونهضة الأمم، فإذا أردنا الحياة فلا بد من تغيير، ولا بد لكل قيود التخلف والرجعية والعنصرية أن تنكسر، ونرفع راية القلم لكي ننهض ونتقدم وننفض غبار الذل من رؤؤسنا. فلا ننتظر المعجزات تنزل من السماء لتغير واقعنا، ولا السماء ستمطر لنا ذهبا، ولا الأرض ألماسا، إنما كلٌ ينال بقدر عمله و”قل أعملوا فسيرى الله عملكم”.