السياسةالصومالتحليلاتمقالاتمقالات الرأي

وهم الاستقلال: لماذا يظل الاعتراف الدولي لإدارة شمال الصومال بعيد المنال؟

مقدمة: بين الدعاية والواقع

في الفترة الأخيرة، انتشرت في بعض وسائل الإعلام العربية، ومنصات التواصل الاجتماعي، روايات مضللة تُروّج لفكرة أن ‎المنطقة التي تُعرف بـ(أرض الصومال)، في شمال البلاد باتت على وشك نيل الاعتراف الدولي كدولة مستقلة. هذا الخطاب المتجدد، وإن بدا للبعض جديدًا أو مثيرًا، هو في الحقيقة جزء من حملة ضغط سياسية وإعلامية قديمة، تُعاد صياغتها بين الحين والآخر، مستهدفة الرأي العام الإقليمي والدولي، وخصوصًا في العالم العربي، حيث لا تزال بعض التفاصيل عن الواقع الصومالي المعقّد غائبة عن الجمهور العام.

في شرق إفريقيا، تتقاطع السياسة مع الهويات، وتتشابك ملفات الفيدرالية والانفصال، ويدور صراع طويل بين قوى تسعى للحفاظ على وحدة الدولة الصومالية، وأخرى تحاول فرض أمر واقع انفصالي عبر الزمن، مستغلة هشاشة الماضي وضعف الدولة بعد الحرب الأهلية. وبينما تدرك النخب السياسية والمختصون أبعاد هذا المشهد، فإن الجمهور العربي العادي قد ينخدع بسرديات مختزلة أو تغريدات مدفوعة المصدر، تُسوّق لانفصال “وشيك”، وتُخفي حجم المعارضة الداخلية، وغياب أي اعتراف دولي حقيقي.

هذا المقال موجّه لكل قارئ مهتم بفهم الحقيقة، بعيدًا عن البلاغة السياسية أو الضجيج الإعلامي. هدفه كشف زيف السردية الانفصالية، وتوضيح لماذا يظل الاعتراف الدولي المزعوم لأرض الصومال مجرد وهم سياسي، يُستعمل لأهداف ضيقة، بينما الواقع على الأرض يسير في اتجاه مختلف تمامًا.

تعافي الصومال: واقع سياسي ودبلوماسية متجذرة

رغم التحديات السياسية التي لا تزال قائمة، فإن الصومال يعيش اليوم مرحلة تعافٍ ملحوظة، بدأت ملامحها تتجلى بوضوح على المستويين الإقليمي والدولي خلال السنوات الأخيرة. فمن خلال شغله لمقعد في مجلس الأمن الدولي للمرة الثانية في تاريخه، يؤكد الصومال عودته الفاعلة إلى الساحة العالمية كلاعب مسؤول ومؤثر. وتملك الحكومة الفيدرالية شبكة واسعة من الأصدقاء الإقليميين والدوليين الذين يتبنون موقفها الثابت تجاه القضايا السيادية، وفي مقدمتها ملف “أرض الصومال”. وهذا التوافق الدولي لا يُمنح مجاملة، بل يستند إلى تقدير واقعي لدور الحكومة الصومالية في تعزيز الأمن والاستقرار، لا سيما نجاحاتها الملحوظة في مكافحة حركة الشباب وتضييق الخناق على الإرهاب.

هذه الإنجازات لم تكن نتيجة ظرف عابر، بل ثمرة استراتيجية سياسية وأمنية مدروسة، عززتها علاقات تاريخية متجذرة ومصالح متبادلة مع الشركاء الإقليميين والدوليين. ومن دلائل هذا التعافي أيضًا ما تمتلكه الصومال من شبكة دبلوماسية نشطة، تشمل أكثر من 30 سفارة وبعثة حول العالم، يعمل فيها العديد من أبناء الشمال، في مشهد يعكس شمولية الدولة وتماسكها، ويُظهر ما لدى الحكومة الفيدرالية من قوة ناعمة فاعلة وأوراق ضغط مهمة على الساحتين الإقليمية والدولية.

الممارسات القديمة لم تعد تمرّ

لقد بلغ الحضور السياسي والدبلوماسي للصومال من القوة والوضوح ما جعل ممارسات كانت تُعد في السابق عادية، بل ومقبولة، محل مساءلة ورفض علني اليوم. فحتى التصريحات أو الزيارات التي كانت تُمرّر في الماضي تحت غطاء المجاملة الدبلوماسية أصبحت تُقابل اليوم بردود فعل رسمية وشعبية قوية، تؤكد أن مقديشو لم تعد تقبل الغموض أو التساهل في ما يتعلق بسيادتها. خير مثال على ذلك ما حدث مؤخرًا عندما حاول سفير الدنمارك تقديم صورة مغايرة للواقع حول “أرض الصومال”، فوجد نفسه مضطرًا للتراجع وتوضيح موقفه بعد الرد القوي من الحكومة الصومالية.

بل إن الأمر لم يقتصر على المحافل الغربية، بل امتد إلى الساحات الإقليمية، كما في حالة السفير الإثيوبي الذي تصرف بما يخالف الأعراف الدبلوماسية. وقد قوبل ذلك بموقف حازم أجبره على تعديل سلوكه واحترام الأطر السيادية الرسمية. ومع ذلك، لم يشفع له هذا التراجع، إذ تم اعتباره شخصية غير مرغوب فيها. كما أن بعض الإجراءات المتعلقة بالمساعدات الدولية باتت تخضع للمراجعة، حيث لم يعد مقبولًا تمرير التمويل أو تنفيذ البرامج خارج القنوات الرسمية للحكومة الفيدرالية، في ما يعكس تحولًا نوعيًا في الاعتراف بشرعية مركز الدولة ودورها المحوري في إدارة شؤون البلاد

وليس هذا فحسب، بل إن الصومال، وعلى مدى العقدين الماضيين، شهد عددًا من الانتقالات السلمية للسلطة، بما في ذلك تداولات رئاسية وبرلمانية نزيهة وعلنية، مما عزز من استقراره السياسي الداخلي وأكسبه احترامًا متزايدًا من المجتمع الدولي، الذي يرى في هذا الاستقرار عنصرًا أساسيًا للثقة والتعاون.

جميع هذه العوامل تبرز بجلاء التباين العميق بين الدولة الصومالية الشرعية، بمؤسساتها وهياكلها ومكانتها الدولية، وبين الإدارة الانفصالي في “أرض الصومال”، الذي يفتقر إلى الاعتراف الدولي، ويعاني من عزلة سياسية متفاقمة.

الانفصال من الداخل: حرب SSC وتداعياتها

مثّلت حرب SSC الأخيرة (2022–2024) نقطة تحوّل واضحة في مشروع انفصال “أرض الصومال”، حيث خسرت حكومة هرجيسا السيطرة على حوالي 40٪ من الأراضي التي تدّعي تبعيتها، إثر مقاومة شعبية واسعة وتشكيل إدارة SSC-Khatumo التي أعلنت ولاءها الكامل للحكومة الفيدرالية الصومالية في مقديشو. هذه الأحداث كشفت عمليًا وعالميًا أن “أرض الصومال” لا تملك السيطرة السياسية ولا الشعبية على جزء كبير من الأراضي التي تزعم تبعيتها لها.

زيارة لاسعانود: آخر مسمار في نعش الاعتراف

في يوم   13  أبريل من الشهر الجاري، شهدت مدينة لاسعانود لحظة سياسية فاصلة حين قام رئيس مجلس الوزراء الصومالي حمزة عبدي بري، برفقة وفد وزاري وبرلماني يضم أكثر من 100 شخصية وطنية مرموقة، بزيارة رسمية إلى المدينة. جاءت هذه الزيارة عقب المواجهات المسلحة التي انتهت بطرد قوات “أرض الصومال”، واستعادة السيطرة من قِبل المجتمع المحلي عبر قوات SSC-Khatumo.

لم تكن هذه الزيارة مجرد استجابة آنية، بل رسالة سيادية واضحة، تؤكد أن الحكومة الفيدرالية الصومالية هي الممثل الشرعي الوحيد لكل مناطق البلاد، وأنها لن تقبل بعد اليوم بسياسات فرض الأمر الواقع. كما مثلت الزيارة اعترافًا ضمنيًا بشرعية قوات SSC-Khatumo كشريك وطني في المرحلة الانتقالية، وهو ما قضى على سردية “الانفصال الطوعي” ولاحقا .

بل أكثر من ذلك، ساهمت الزيارة في كشف هشاشة الخطاب الانفصالي الذي طالما ادّعى وجود “إجماع شعبي” داخل حدود الإدارة المعلنة من طرف واحد إذ أظهرت الوقائع أن مناطق أخرى من تلك الإدارة ترفض الانفصال وتتوق لوحدة البلاد.

من مشروع جمهوري إلى سلطة قبلية ضيقة

شهدت “أرض الصومال” تراجعًا سياسيًا ملحوظًا؛ فلم تُجر انتخابات حاكم الإدارة منذ نوفمبر 2017 وتم تأجيلها لأكثر من مرة وتمديد السلطة مرارا وتكرارا  إلي أن تم عقدها في 13 نوفمبر 2024 في بينما تم تأجيل الانتخابات البرلمانية مرارًا، آخرها في 2022، مع تمديد غير دستوري لولاية البرلمان الحالي. كما تعرّضت المعارضة السياسية للقمع، وتمت ملاحقة الصحافة المستقلة. أما الضربة الكبرى، فكانت شن حرب جائرة على ثاني أكبر عشيرة مشاركة في مشروع “أرض الصومال” ذاته، ما أدى إلى خسائر بشرية كبيرة وأسر مئات الجنود من “أرض الصومال”.

اللوبيات الدولية والرهانات الفاشلة

أنفقت سلطات “أرض الصومال” أكثر من مليون دولار في حملات ضغط في الولايات المتحدة بين 2019–2023 (وفقًا لتقارير OpenSecrets.org). ورغم هذه الجهود، لم تحرز أي تقدم في تغيير المواقف الأمريكية أو الدولية تجاه ملف الاعتراف والاتحاد الإفريقي أكد مرارًا رفضه لأي محاولات انفصال أحادي الجانب، كما أن الدول الكبرى، رغم تواصلها مع سلطات “أرض الصومال”، لم تعترف بها، بل تعتبر ذلك ورقة ضغط ومساومة مع الحكومة الفيدرالية لا أكثر.

الخط الأحمر الإفريقي وحدود المجاملة الغربية

رغم العلاقات الرمزية مع تايوان، ومحاولات استقطاب دعم غربي، التزمت الولايات المتحدة علنًا بوحدة الصومال، وكان ذلك واضحًا في مشروع قانون الكونغرس عام 2023، الذي تجنّب تمامًا استخدام أي لغة توحي بالاعتراف، ما يعكس ثبات الموقف الأمريكي.

الخاتمة: السيادة لا تُمنح بل تُفرض

مشروع استقلال “أرض الصومال” اصطدم اصطدامًا مباشرًا بالواقع السياسي والقانوني والجيواستراتيجي. من التراجع الديمقراطي، إلى الحرب الأهلية، إلى غياب الاعتراف الدولي، كلها عوامل تُظهر أن المشروع يواجه مأزقًا بنيويًا لا يمكن تجاهله وفي المقابل، تبقى الحكومة الفيدرالية في مقديشو الجهة الشرعية الوحيدة المعترف بها دوليًا، وهي منفتحة على أي حوار وطني شامل، بشرط أن يكون في إطار السيادة الصومالية ووحدة التراب الوطني، ووفق المرجعيات القانونية والدستورية المتوافق عليها.

ختامًا، إن كان هناك انفصال قد تحقق لأرض الصومال، فهو انفصالها الكامل عن الواقع، وعن القوانين الدولية، بل وحتى عن الحقائق التاريخية المتجذرة.

محمد حاج

كاتب دبلوماسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى