توبة عن الفن أم توبة عن الفسق..!
نسمع بين الفينة والأخرى أن مطربا ما يعتزل الفن ويعلن التوبة عنه والرجوع الى الله ولكن ظاهرة الاعتزال من الفن ليست خاصة في بلد من البلاد وانما هي عامة في جميع بلدان العالم العربي والاسلامي لسبب اعتقادهم تحريم الفن في الاسلام واعتباره من المعاصي التي تستوجب التوبة والاستغفار.
بادي ذي بدء، ينبغي علينا الاعتراف بان الفن وخاصة الغناء شابته شوائب أفسدت جماله وكدرت صفوه واختلط بميوعة وخلاعة أضرت بسمعته وسمعة من يتعاطى معه تأليفا وأداء واستماعا، ولكن ما ذنب الفن في انحراف أصحابه؟ فالفن ظاهرة انسانية صاحبت الوجود الإنساني منذ الأزل ومنذ أن أحس الإنسان مظاهر جمال الطبيعة حوله كجمال السماء الزرقاء فوقه وزينة الكواكب فيها وبهاء القمر ونوره الفضي وسحر شروق الشمس وشفق غروبها والأرض الممتدة وما عليها من الجبال الأوتاد والأنهار الثجاج والبحار العجاج والرياض الزاهرة وما بثه الله عليها من خلائقه العجيبة من الدواب والنَّاس والأنعام في البر والبحر، ولما رأى الانسان هذا الجمال المبثوث في أرجاء الكون وشعر هذا الجمال وهزه وأخذ على لبه وقلبه أراد أن يصف شعوره بهذا الجمال الذي يراه، وقد يكون الوصف بكلام منظوم كالشعر أو نثر او غناء وقد يكون بآلات موسيقية وفد يكون بتصوير أو نحت أو نقش على حجر وغير ذلك من صور إظهار الشعور بالجمال فكان الفن من ذلك كله.
وليس في العالم أمة حية راقية إلا ولها اهتمام بالفن الراقي، فشعور الإنسان بالجمال شيء فطري خلقه الله في نفسه فطرة الله التي فطر الناس عليها، وليس الفن الهابط الا تبديلا لهذه الفطرة في خلق الله، فالفن رسالة ترقي بالانسانية وتشحذ هممه وتنمي ملكاته وشعوره في حب الوطن وتقوي انتماءه الى مجتمعه وتراثه وثقافته وتشدّ ولاءه الإنساني العام وتربيه على الفيم الانسانية الجميلة. وليس الفن الهابط الا شذوذا عن أصل هذا الفن الراقي. وليس الغناء اثارة الشهوات وعرض الأجسام وإبرازا الصدور وهزّ الأرداف كما يفهمه كثير من الناس.
اذا، هناك نوعان من الفن، فن راقي فطري له رسالة انسانة راقية، وفن خليع ماجن خارج عن الفطرة وليس له رسالة غير إثارة الغرائز، والحكم على الشي فرع عن تصوره، فإذا تصورنا الفن على الصورة الأولى الراقية فلا شائبة في جوازه للفنانين ولا حرج في سماعه والاستمتاع بمعانيه الجميلة، أما إذا تصورناه بمعناه الهابط فلا يخفى على أحد أنه يأخذ حكمه عن تصوره. وقد قال العلماء قديما: الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، فكذلك الغناء كلام حسنه حسن وقبيحه قبيحه، ولا يعقل إلقاء الكلام جزافا وعلى عواهنه عند الحديث عن الفنون تحريما أو إباحة، وإنما الإنصاف تفصيل القول وبسطه وتدقيقه حسب اختلاف الفنون ومراميها وأهدافها حتى يتبين الخطأ من الصواب ويسلم الناس من اللبس والتلبيس في هذا الموضوع.
فليس كل الغناء سواء، ففيه الغث والسمين وفيه التبر والترب وفيه الرديء والجيد وفيه ما هو حشو من القول وسقط من المتاع وفيه ما هو فلسفة عميقة في الحياة. وإن أردت أن تعرف ذلك فتأمل معي هذه القطعة من الأغنية التي ألفها الأديب الكبير حسن حاج عبد الله المشهور بـ ( حسن غني Ganeey) وبصوت المطرب الكبير حسن آدم سمتر وأيقونة ملكة الصوت حليمة خليف مغول تغمدها الله برحمته الواسعة.
Caashadu ilaahay
cirka taagay udubli
ciidana ka dhigay gogol
wabiyada cartamayiyo
cidhifyada bad kaga xidhay
iyo buuraahaa culus
cimrigeed aduunyadaa
waxa jiraa col iyo nabadee
caydhiyo nin xoola leh
iyo laba is caashaqay
caawana kamay tagin
caynkaynu ku ogeyn
adna calafka kuu qoran
cuuna seegi maayee
caashaqa ha baayicin
………
ma ogtahay curyaankaba
cago loo ma waayine
caynkaa wax loo yidhi
ku wa cararayee ladan
inay ku cibro qataan
caashaqa ha baayicin
فأنت اذا قارنت بين هذه الأبيات الرائعة وبين الكثير من الكلام المبتذل الذي يسميه الناس في أيامنا هذه فنا مما يمجه الذوق السليم ولا تستسيغه النفوس الفطرية – لرأيت عجبا ولرأيت الفرق بعيدا، وشتان ما بين السها والقمر وما بين الثرى والثريا. في هذه الأبيات ترى الفن ارقى ما يكون فيه، ولا شك في ان كل من هو على فطرة سليمة يطرب لهذه المعاني وتهزه هزا وتأسر قلبه وتاخذ على لبه، وليس ذلك كذلك الا لان الاديب اظهر براعة فائقة في تصويره المعاني الجميلة في الحب ممزوجة بفلسفة عميقة في الكون والحياة وربطه ذلك كله بحكمة الله في خلق الكون والانسان مما يجعل الانسان يقف امام أديب فيلسوف يغوص في اعماق النفس البشرية ويستخرج منها اللآلئ والدرر فينثرها نثرا.
فكذلك كان الأدباء العمالقة الكبار في العصور الزاهرة للفن الصومالي مثل عبدالقادر حرسي يميم ومحمود عبدالله سنغب ومحمد ابراهيم ورسمي هدراوي ومحمد علي كاري وعبدي محمد أمين وعبد قيس وغيرهم من الأدباء الكبار الذين بلغوا القمة في الذوق الأدبي الرفيع ولم ينزلوا بأدبهم الى سفاسف الامور وانما ارتفعوا به بمجتمعهم الى منازلهم العُلى والى مستواهم الأدبي الرفيع، فليس الاديب من ينزل الى المستوى الأدني لمحبيه من العامة وانما الاديب الحق من يرفع بمستوى محبيه من الجماهير ويرقي ذوقهم حتى يتذوقوا بالجمال ويدركوا معاني الادب الرفيع.
يؤلمني ان ارى أديبا كبيرا يعلن توبته عن الاغاني التي ألفها في الحب العاطفي. فبل شهر او شهرين كنت استمع الى إذاعة صوت أميركا الصومالية وكان المذيع يجري حوارا مع احد الأدباء الصوماليين الكبار. وفِي اثناء ذلك الحوار قال هذا الاديب انه توقف الان وتاب عن تأليف الاغاني العاطفية. لم استغرب ان اسمع توبة المطربين والمطربات الصغار وإعلان توبتهم، فمعظم هولاء ليس لديهم ثقافة عالية يميزون بها بين الجمال وبين السخافة وبين الرقي وبين الهبوط وبين الالتزام وبين الخلاعة وانما كان امتهانهم للفن لأغراض دنيوية دنيئة ولا يبالون باي طرق يصلون بها الى هدفهم، كل ما يهمهم هو ارضاء العامة ورغباتهم السخيفة فجعلوا جسدهم عرضة للناس بدل مواهبهم الفنية فأصبحوا يثيرون الغرائز الجامحة بدل اثارة العواطف الانسانية. ولا غرو في ان ينتاب مثل هولا شعور بالذنب يقلق حياتهم ويمنعهم من الاستقرار النفسي والعاطفي لما يشعرون به في قرارة انفسهم من مغبة الخوض في الرذائل وتطاردهم الهواجس خوفا من عقاب الله لما فرطوا في حق الله فيعلنون التوبة والرجوع.
لم استغرب صدور ذلك من شباب وشابات تزينوا بأزياء الفن وتحلوا بحلاه وماهم من الفن في شيء ولكنني صدمت ان اسمع أديبا كبيرا يعرف معاني القول ويفهم اسرار البيان ان ينجرّ الى مثل هذه المصيدة ويقع في شباك نصبت لمدّعي الفن الذين لا يفهمون منه الا عرض الصور للظهور على الشاشات ولا يهمهم معنى جميلا ولا رسالة راقية.
ولا بد من الإشارة هنا الى ضغط المجتمع الذي تسود فيه اليوم ثقافة فقهية تحريمية تجرم الغناء وتراه لهوا يصد عن سبيل الله وترى الموسيقي أدوات الشيطان للصد عن ذكر الله، مع ان الفقهاء مختلفون في امر الغناء من ناحية الشرع، فمنهم من رأى الجواز ضمن مراعاة القيم الاسلامية العامة للمجتمع، ومنهم من تشدّد ورأي التحريم المطلق المجمل دون تفصيل. ففي كل عصر من العصور الاسلامية يغلب احد الرأيين تحريما او اباحة. فإذا كان المسلمون في حالة قوة ورقي ونهضة تتضاءل المذاهب الفقهية المتشددة في أمور الفن وتزدهر الفنون وترتقي وتلقى رواجا واهتماما من الخلفاء والامراء وسائر طبقات المجتمع، اما اذا كان المسلمون في حالة انحطاط وضعف قويت شوكة التيارات المتشددة واختفت الفنون وجميع مظاهر الفرح والسرور من المجتمع ويسود الوجوم وثقافة التحريم التي ترى ان الاصل في كل شيء التحريم لا الإباحة. ولا غرابة في هذا الجو المشحون ان نرى الفن يضمر ويهبط وان نرى الفنانين ينتابهم شعور بالقلق والضياع.
اخيراً، من حق اي احد ان يتوب عما يراه معصية اقترفها او جرما ارتكبه ولكن كان الخطا الذي وقع فيه هولاء الفنانون انهم أعلنوا توبتهم عن الفن من حيث كان الصواب ان يعلنوا توبتهم عن الفسق، فالعيب ليس في الفن كما ذكرنا آنفا وانما العيب في المطربين الذين استعملوا الفن كغطاء لسلوكهم المنحرف، فكان عليهم ان يعلنوا توبتهم عن الفسق الذي خاضوه في سبيل الوصول الى شهرتهم بدل ان يعلنوا التوبة عن الفن الذي هو بريء عن انحرافهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب. فلا حرج على الفن متى ما روعي اخلاقه وآدابه ورسالته الانسانية، ولا جناح على الفنانين اذا احترموا انفسهم وراعوا حرمة الفن واحترموا ذوق جمهورهم ومحبيهم. وقد سئل مرة الممثل المصري الكبير فاروق الفيشاوي متى يتوب عن الفن؟ فاجاب: اذا كانت التوبة تمنعني من الفن فلا أريدها.