فصل في عيد الحب: يوم فالنتاين أم يوم مغيث (٢)
أول قصة حب إنسانية على ظهر الأرض حب أبينا آدم لأمنا حواء. وقد كان حبا صافيا لا تشوبه الشوائب ولا يخاف منه الضرائر. ويروى أن الملائكة سألت آدم هل تحب حواء؟ فقال نعم، ثم سألوا حواء هل تحب آدم؟ فأجابت بالنفي، مع أن قلبها كان مشغوفا بحبه، ويقال إنه بعد هبوطهما إلى الأرض بدأ كل منهما يبحث عن الآخر، فكان أبونا آدم عليه السلام يبحث عنها في النهار ويستريح في الليل، وأما أمنا حواء فكانت تبحث عنه ليلا ونهارا. ولما التقيا أخبرها أنه كان يبحث عنها في النهار ويستريح في الليل، ثم سألها ما إذا كانت تبحث عنه في الليل أو في النهار؟ فقالت لم أبحث عنك ليلا ولا نهارا. وهكذا أورثت أمنا حواء بناتها ميلهن للتدلل وإظهار التمنع؛ لأنهن يدركن بالفطرة أن كل ممنوع مرغوب.
وإذا كانت قصة آدم وحواء أول قصة حب في التاريخ الإنساني، فإن أول قصة حب في الإسلام كانت بين نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وبين أمنا خديجة رضي الله عنها. أحبها الرسول حبا جما وأحبته كما أحبها حتى قال ” إني رُزقت حبها”. فالرسول هنا يعتبر الحب رزقا، وهو معنى عميق لطيف، وكأنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يعلمنا أن الله لا يهب الحب لجميع خلقه وإنما هو رزق من الله يرزقه من يشاء من عباده. اللهم ارزقنا حب أزواجنا وذرياتنا وآبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وأصدقائنا وصديقاتنا وعامة المسلمين وسائر الإنسانية”.
صرّح النبي عليه الصلاة والسلام حبه بلفظ صريح فقال “رُزقت حبها” ولا يجد في ذلك غضاضة، مع أن كثيرا منا يتحرج أن يصرح حبه لزوجته ! بل إن بعضنا قد يرى ذلك إثما أو على الأقل سوء أدب أو علامة ضعف. سئل الرسول (ص) عن أحب الناس إليه، فقال؛ عائشة، ثم من؟ فقال: أبوها. وفي مجتمعنا إذا رأى الناس رجلا يحب زوجته ويعاملها بلطف ورفق واحترام يقولون إنه تحت سيطرة زوجته تأمره فيطيع وتنهاه فيرتدع. وإذا أضاف إلى ذلك حب أهل زوجته فقد يرون ذلك إذعانا تاما للزوجة وخضوعا كاملا لرغباتها. صلة أهل زوجتك وإكرامهم من حسن المعاشرة وتقوية أواصر المحبة والمودة بين الزوجين.
حب نبينا محمد لأم المؤمنين خديجة حب لحمته الوفاء والإخلاص وسداه المودة والرحمة، يأوي إليها عند الفزع ويسكن إليها عند الجزع، تهدّئ عنه الروع وتعيد إلى نفسه الطمأنينة والهدوء. جاء الرسول إليها مروعا مما رَآه في غار حراء ثبتت قلبه معددة صفاته الأخلاقية التي تجعلها مطمئنة واثقة في أن الله لن يخذله أبدا ” فوالله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”. مخلصة في حبها وفية بعهدها، فقابل الإخلاص إخلاصا فلم يتزوج معها وبادل الوفاء وفاء حتى بعد موتها. هنا يظهر الحب في معانيه الأسمى كعاطفة إنسانية نبيلة بنبل حامليها وليس حبا ماديا حسيا مرتبطا بجمال الظاهر فحسب وإنما هو حب معنوي مرتبط بجمال الباطن من المزايا الأخلاقية والسمو الإنساني.
أما أشهر قصة حب في الإسلام فهي قصة الصحابي مغيث والصحابية بريرة. والقصة ثابتة في البخاري. وملخص القصة أن بريرة كانت مولاة للسيدة عائشة ومغيث مولى لأبي أحمد الأسدي. وقد شغف قلب مغيث بحب بريرة فتزوجها. ثم إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها اشترت بريرة فاعتقتها، فطلبت بريرة من مغيث الطلاق فطلقها بعد أن يئس من استبقاء العلاقة، ولكنه بعد طلاقها لم يستطع الصبر عنها فهام على وجهه يمشى خلفها باكيا في طرق المدينة يعلن حبه لها ويطلب إليها استرجاعه، حتى قال الرسول لعمه العباس: ألا تعجب – يا عباس -من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا! وقد رقّ قلب الرسول لحاله وأشفق عليه وذهب إلى بريرة متشفعا قائلا لو راجعته، فقالت أتأمرني يا رسول الله فقال لا، إنما أنا متسفع فقالت لا حاجة لي فيه.
فالرسول عليه الصلاة والسلام لم ينكر على مغيث حبه لبريرة ومشيه خلفها باكيا في طرق المدينة معلنا حبه لها حتى بعد أن طلقها وصارت أجنبية عنه. لم يكتف الرسول بعدم الإنكار وإنما شفع له بعد أن أشفق عليه. فما ظنك لو أن شيئا من هذا أو قريبا منه حصل اليوم. لا أشك أن كل من تسول نفسه اليوم القيام بمثل قام به مغيث في المدينة سيتعرض للعقاب بالضرب أو بالسجن أو ربما حتى بالقتل! فوالله، لن يسود السلام في ربوع ديارنا ولن يعم الحب في مجتمعاتنا حتى نرى سلفيا عاشقا يذوب رقة ويهيم على وجهه ويبكي وراء حبيبته في شوارع مكة، ويرى التوحيد في الحب كما يرى التوحيد في العقيدة وينفي الشرك والتعدد عن الحب كما ينفى الشرك والتعدد عن ذات الله.
ومن سوء حظ مغيث أن حبيبته لم تكن تبادله الحب أو أنها ربما كانت تبادله ولكنها بعد ما نالت حريتها اختارت أن تضحى حبها من أجل حريتها ولكن ومتى كان للحب حدود من الحرية والعبودية!.
ومن باب الشيء بالشيء يذكر، فقد حدثني بعض الأصدقاء قصة طريفة خلاصتها: أن مجموعة من الرجال المتزوجين من الجالية الصومالية في بريطانيا تلقوا دعوة من مركز شؤون الجاليات في حيهم لمناقشة قضايا المشاكل العائلية. شرعوا في الحديث عن المشاكل الزوجية لدى الجالية الصومالية في بريطانيا وتساءلوا عن الأسباب فكل أدلى بدلوه على ما ارتآه. وبينما هم في شد وجذب وصراخ ونفي، سأل أحد منظمي الاجتماع الرجال الصوماليين: هل تحبون زوجاتكم؟ فتوقفوا عن الهياج وساد في الغرفة سكون وهدوء، ثم قال لهم: من يحب زوجته منكم فليرفع يده، فرفعوا كلهم أيديهم، ثم سئلوا متى كان آخر وقت أخبرتم لزوجاتكم حبكم لهن؟ فقال بعضهم: إنه لا يذكر آخر مرة أخبرها لزوجته حبه لها، وقال البعض الآخر: إنه لم يخبرها ذلك قط في حياته.
فقال لهم أصدقائي:
– لا ينقصكم في علاقتكم الزوجية إلا الحب !
– الحب ! وكيف ينقصنا؟ وكيف عرفت؟
– إنكم إذا أردتم اختبار صدق قولي هذا، فأنا اقترح أن يكتب كل أحد منكم رسالة نصية من هاتفه المحمول إلى زوجته.
– وماذا يكون في نص الرسالة يا ترى؟
– يكون فيها كلمة واحدة ( أحبك)
– ثم ماذا؟
– ثم ننتظر الإجابات حسبما ترد.
– حسنا.
فكتب كل واحد منهم لزوجته وربما للمرة الأولى في حياته (أحبك). حبس الرجال أنفسهم ينتظرون الردود وبلغت القلوب الحناجر. تلقى السيدات رسائل في هواتفهن، وإذا فيها شيء لم تَر أعينهن قط ولا خطر في بالهن ولا سمعت أذنهن. فغرن فاههن في دهشة، كبرت كلمة تخرج من أفواههم. لم تصدق أعينهن بما رأت وقرأت. لا يخامرهن شك في أن شيئا ما قد حدث لأزواجهن.
جاء ردّ الأولى: هل جننت يا رجل!
فتبعها ردّ الثانية: أتضحك عليّ يا رجل!
وتلاها جواب الثالثة: هل تمزح؟
فالرابعة: هل تظنني أمك؟
فالخامسة: من كتب هذه الرسالة؟
فالساسة: هل أنت في حلم؟
فالسابعة: اسمع يا رجل، تلقيت منك رسالة أظنها كانت متجهة إلى سيدة أخرى ولكنها ضلت طريقها وانتهت -بحمد الله – في هاتفي، فوالله، لتخبرنّي صاحبة هذه الرسالة أو لا تعود إلى البيت الليلة. فسقط في المسكين في يديه وأوقع نفسه في مهلكة كان عنها في غنى.
هذه عواقب عدم تصريح الحب بين الزوجين. تدل جميع ردود الزوجات على شيء واحد وهو عدم تصديقهن بأن تصدر هذه العبارة اللطيفة من أزواجهن، فكان الرد إما الاتهام بالجنون أو مس الشيطان وإما بقصد المزاح أو توهم ضبط الرجل متلبسا بجريمة الخيانة. ولا أكتمكم السر فإنني بعدما سمعت هذه القصة جربت نفسي هذه الطريقة وكتبت إلى زوجتي ” أحبك يا غاليتي” ولا أخبركم الرد لحرمة إفشاء السر بين الزوجين. ومن أراد منكم أن يجرب فله ذلك ولكنني أوصيكم بالاستخارة قبل أن تفعلوا ذلك؛ لأن الأمر جلل، وقد تتوهم صاحبتنا أن الرسالة كانت متجهة إلى عشيقة أخرى فتصدر الأمر إلى الزوج بعدم العودة إلى البيت الليلة.
وعموما، يستطيع النساء أكثر من الرجال – خلافا لما يظنه كثير من الناس – أن يخفين مشاعرهن ويتحكمن على عواطفهن على الأقل فيما يتعلق بالحب. وهذا مما يسهّل لهن التحمل إذا عرضت لتجربة حبهن صعوبات تعيقهن عن الاستمرار وتضطرهن إلى إنهاء العلاقة. بينما الرجال عادة لا يخفون مشاعرهم ولا يستطيعون التحمل والصبر على الفراق، لذلك تراهم إذا أحبوا يسهرون ويصابون بالأرق ويستطيلون الليل ويعددون النجوم ويناجون القمر ويتخبطون خبط عشواء ويهيمون على وجوههم. وكم من رجل هام على وجهه ورمى نفسه من شاهق أو في البحر أو غير ذلك مما يعرضه لتهلكة نفسه من أجل علاقة عاطفية لم يكتب لها النجاح. مات قيس من أجل ليلي، ومات علمي بوطري من أجل هدن، ومات روميو من أجل جوليت. فهل سمعتم امرأة ماتت من أجل عشيقها؟ فهل سمعتم امرأة هامت على وجهها أو رمت نفسها من شاهق من أجل حبها؟
وقد أحسن من قال:
إن العيون التي في طرفها حور *** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به** وهن اضعف خلق الله إنسانا
وقد ذكر ابن حزم في كتابه طوق الحمامة أن ابن عباس سئل عن قتيل العشق فأفتى: هذا قتيل الهوى لا عقل ولا قود.
وقد وصل ببعض الشعراء العذريين بالأمر أن جعل حبه يساوي جهادا في سبيل الله والاستشهاد فيه أسمى أمانيه.
يقولون جاهد يا جميل بغزوةٍ … وأيّ جهادٍ غيرهن أريد
لكلِّ حديثٍ بينهنَّ بشاشةٌ … وكلُّ قتيل بينهن شهيد
ومن عجائب الحب أن المحب لا يكتفي بتعلق حبيبته وإنما يتعداه إلى التعلق بكل ما له صلة بمحبوبته من أهلها وصديقاتها. لذلك وقف شعراء العرب على الأطلال وذلك ليس حبا للأطلال بذاتها ولكن حب من سكن فيها. ولقد أحسن قيس مجنون ليلى في التعبير عن هذا المعني أحسن تعبير؛ حيث يقول:
أَمُرُّ عَلى الدِيارِ دِيارِ لَيلى ** أُقَبِّلَ ذا الجِدارَ وَذا الجِدارا
وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفنَ قَلبي ** وَلَكِن حُبُّ مَن سَكَنَ الدِيارا
وقد بالغ المنخل اليشكري في ذلك حتى ادعى أنه كما يحب حبيبته فكذلك يحب بعيره ناقة معشوقته، ويقول في ذلك:
وأحبها وتحبني ***** ويحب ناقتها بعيري
ولي عودة في الموضوع بمقال أخير ثالثة الأثافي.