الحركة الدبلوماسية في العصور الإسلامية ودور العلماء في منطقة القرن الإفريقي (3)
رأينا فيما مضى أنّ القوى الخارجية كانت دائماً تتصل بمنطقة القرن الإفريقي، وهذا الأمر لم يبدأ في العصر الإسلامي فحسب، وإنّما أيضاً ظهر في العصور القديمة ولكنه كان لزاماً أن نقدم أولاً وقبل كل شيء رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى النجاشي ملك الحبشة كونها وضعت علاقة وثيقة بين الحبشة وبين دولة الإسلام التي كان يقودها الرسول – عليه السلام – بالإضافة إلى أنّ الرسالة نتج عنها نتائج باهرة غيرت مسار المنطقة سياسياً ودينياً.
وكانت قبل ذلك علاقات دبلوماسية حدثت في فترات مختلفة في العصور القديمة مثل التي تمت بين مملكة أكسوم والإمبراطورية الرومانية، والأخيرة أوفدت سفيراً يدعى جوليان إلى البلاد الأكسومي في القرن الرابع الميلادي، والهدف من إرسال هذا الوفد كان لعقد الاتفاق بينهما على مرور البضائع التي كان أباطرة الرومان يجلبونها من الهند؛ لأنّ الأحباش كانوا يتعرضون للسفن العابرة للبحر الأحمر إذا لم تكن تحت حمايتهم. وقد وصف هذا السفير الروماني ملك أكسوم بأنّه ينتطق بقطعة من القماش الموشاة بالذهب وفي أعلى بطنه قطع مستطيلة من الحرير المحلي باللآلي تتدلى على جابيه أربع ذلاذل ذهبية وحول عنقه قلادة من الذهب الخالص، وكان إذا خرج في موكبه بركب عربة ذات أربع عجلات يجرها أربعة أفيال سود قد حليت جوانبها ومقعدها برقائق الذهب وكان يرتدي درعاً من الزرد المذهب ويحمل حراباً صغيرةً مذهَّبة ويحف بركبه مستشاروه وقد ارتدوا أفخر الملابس وحملوا مثل الحراب التي يحملها الإمبراطور.
وكان يمشي خلف الموكب الملكي جماعة من العازفين على النأي. ويضيف السفير أنّه حينما دخل على الملك ركع في حضرته وعظمته حتى كادت جبهته تمس الأرض ولكن الملك رجاه أن يستوي على قدميه؛ فتقدم نحو العرش ورفع إلى الملك كتاب سيده إمبراطور الرومان، وأخذ الكتب وأبدى إعجابه بهدايا أخيه الفاخرة ثم فض الرسالة ودفعها لمن يترجمها له، وهذه الصورة الحقيقية التي يرويها شاهد عيان يعبر عن أمجاد الحبشة بالعابرة وما وصلت إليه من المجد والعظمة منذ ذلك التاريخ. ((انظر كتاب إثيوبيا والعروبة والإسلام عبر التاريخ ) لمحمد الطيب بن محمد بن يوسف اليوسف 1/ 181 – 182)).
وفي سياق آخر في جنوب شبه الجزيرة العربية أرسل الملك شعر أوتر ملك دولة سبأ وذي ريدان في اليمن وفداً مفاوضاً إلى مملكة أكسوم الحبشي بقيادة رجل يدعى قطبان أوكان باعتباره أحد قادته العسكرية ليفاوض مع النجاشي الحبشي شخصياً لوقف النزاع بين الجانبين، وقد بدأ اليمنيون بهذه العداوة عند ما أمر الملك قائد جيشه قبطان أو كان الحرب على الحبشة وملكها، وفعلاً سافر قطبان إلى أرض الحبشة وتمكن من إنجاح مهمته التي كلفه بها سيده وقد جرت الحرب في جانب الحبشي، وعاد جيش قطبان سالمين بعد اشتراكهم في كل المعارك أو الواجبات العسكرية التي عهد إليه أن يقوم بها ضد النجاشي وتحقيق النصر.
ورأى هذا القائد عدم ذكر اسم قبيلته دلالة على قلة ذلك الوفد الذي سافر إلى أرض الحبشة، وعلى ذلك نجح الوفد هدفهم ثم عاد القطبان أو كان بسلام إلى أرض الوطن، وقد تمّ التفاوض مباشرة بدون وساطة بين قطبان أو كان وملك الحبشة نفسه. (( عبد المعطي بن محمد عبد المعطي سمسم : العلاقات بين شبه الجزيرة العربية والحبشة منذ القرن السادس ق. م ، وحتى نهاية العهد الحبشي باليمن، رسالة الماجستير في التاريخ القديم، أم القرى، عام 1410هـ، ص 85 – 87)).
ولما تمكن أبرهة الحبشي على حكم اليمن وبسط نفوذه على جميع البلاد يقال إنّه فكر في الزحف على المناطق الشمالية المتاخمة لحدود بلاد العرب الجنوبية من أجل بسط نفوذه عليها، وواصل تقدمه في تلك المناطق حتى بلغ نجد ومنطقة الحجاز ، وبذلك كون أبرهة دولة تتمتع بمكانة سياسية كان لها ثقلها في العالم المتحضر آنذاك. مما دفع ملوك الدول المجاورة له إلى خضب وده، وإرسال الوفود والسفارات من أجل إقامة وتدعيم العلاقات فيما بينهم، ولأجل تقوية العلاقات توافدت الوفود من أكثر بلد مثل وفد من النجاجشي الحبشي، وملك الروم وفارس ومبعوثين من المنذر والحارث بن جبلة وأبي كرب بن جبلة. كل هؤلاء طالبين رضاءه والتعاون معه، وقد استقبل أبرهة تلك الوفود في مقر إقامته وفود كلا من النجاشي ومن ملك الروم. ( عبد المعطي بن محمد عبد المعطي سمسم : العلاقات بين شبه الجزيرة العربية والحبشة منذ القرن السادس ق. م ، وحتى نهاية العهد الحبشي باليمن، رسالة الماجستير في التاريخ القديم، أم القرى، عام 1410هـ، ص 226 – 227 )
ومن أشهر العلاقات بين منطقة القرن الإفريقي والعالم الخارجي في العصور القديمة ما حدث بين بلاد بونت (الصومال) والمصريين القدامى ولاسيما في عهد الملكة حتسبشوت ورحلتها للمنطقة في القرن 15 ق م، بحيث أنّ هذه الرحلة تفيد بمعلومات تاريخية في غاية الأهمية سواء فيما بتعلق بالأحوال الدينية والاقتصادية والاجتماعية السياسية، وذلك من خلال الرجوع إلى النقوش المختلفة التي تركها المصريون القدامى في قالب ثقافي حضاري يجمع لغة واضحة وإبداعا فنيا وثقافة عالية من حيث الفن والمعمار على الرغم من بُعد الزمان والمكان، بل وتكشف مكامن حضارة قوم ولوا، لهم سماتهم الحضارية وعلاقتهم الثقافية والاقتصادية والسياسية ولهم دور رياديّ في التاريخ الثقافي والحضاري في العالم القديم، غير أنّه يهمنا أن نشير إلى الجوانب السياسية، وخاصة فيما يتعلق بالقادة في تلك الفترة وما كان يجري في داخل بلاطهم من الحفلات واستقبال الوفود… ومن حسن الحظ أنّ هذه الآثار والنقوش رسمت بصور تبرز حفلة استقبال حاكم الصومال بالبعثة المصرية من قبل الملكة حتشبسوت إلى الصومال، واستطاع الفنان المصري أن ينقل صورة حية تمثل تلك المقابلة السياسية بين حاكم الصومال وبين قائد تلك البعثة، وقد وقف حاكم الصومال يرحب بالقائد المصري، وأن تلك الصورة تترجم المستوى السياسي الذي كان يتمتع بهذا الحاكم ونجاحه الدبلوماسي عند لقائه مع الوفد المصري. ( عبد المنعم عبد الحليم : الجمهورية لصومالية ” الإقليم الجنوبي وصوماليا، ص 351 – 352)
ومن المفيد أن نورد هنا ما أشارت إليه الكتابات المصرية المدونة على النقوش من بعض أسماء من الأسرة الحاكمة في العصر الفرعوني، وكذا ما كان يجري في بلاطهم، ونستطيع أن نجد بعض تلك الآثار صورة لرجل صومالي يدعى ” هرتيزي ” وأن هذه الصورة رسمت بجوار صورة لأحد أبناء الملك خوفو باني الهرم الأكبر (حوالي عام 2700 ق م) ولعل هرتيزي هذا كان مكلفاً بالإشراف على الرحلات البحرية التي تجوب البحر الأحمر بين مصر والصومال.
ولاشك أن مثل هذه المصادر والنقوش تفيدنا بأن الصومال كانت تمتلك حنكة سياسية ودبلوماسية عالية في تلك الفترة القديمة، وأن قادة الصومال في ذلك العصر استطاعوا التعامل المباشر مع الزعماء الآخرين والتبادل معهم في المصالح المشتركة بين الجانبين. مما يؤكد لنا أن الشعب الصومالي لم يكن بعيداً عن مسار الحضارة بل شارك فيها وقام بدوره الحضاري والتعامل مع القوى الكبرى في تلك العصور القديمة في وقت كانت أغلب شعوب العالم ما تزال تعيش بداياتها الأولى. ورغم أهمية المصادر الأجنبية وما تحمل إلينا من الأخبار عن بلاد الصومال إلا أن بعض الباحثين يعيبون هذا النوع من المصادر بأنها تقدم وجهة نظر الآخرين في الشئون الصومالية، فضلاً عن أنها لا تغطي جميع حقب التاريخ الصومالي القديم.
ولا جدال أن الآثار والنقوش التي دونت على الجدران لها قيمة تاريخية، بحيث تصور لنا المستوى المعيشي والسياسي الذي كانت الصومال تتمتع به في ذلك الزمن، لذلك من المحتمل أن الملكة حتشبسوت قبل سفرها إلى الصومال كان لديها فكرة واضحة عن المنطقة وسلطانها، ولم يكن الوفد المصري بقيادة الملكة قد فوجئ بالترحيب الكريم والحفاوة الرائعة التي قوبلت بها البعثة المصرية على يد ملك بلاد بونت وحاشيته والأسرة المالكة.
ومن المؤسف أننا نفتقد تفاصيل ما جرى بين القادتين على الأقل من جانب الصومال، وأنّ الجانب المصري لم يكشف حتى الآن كل ما عثر عليه من المعلومات، ويبدو أنّهم ركزوا فقط على ما يجمل التاريخ والحضارة المصرية العريقة، ومن هنا ينبغي أن نعيد النظر من جديد إلى قراءة المخلفات والآثار المتوفرة حتى الآن وعلى رأسهم الكتابات والرسوم المنقوشة على المعابد والجدران الأخرى.
كل ذلك يبرهن على أنّ علاقة منطقة بالعالم الخارجي لم تبدأ في العصر الإسلامي، كما أنّ علاقة النبي – صلى الله عليه وسلم – بالحبشة وأخبارها في الرسالة التي بعثها إلى النجاشي – رضي الله عنه – والتي أشرنا من قبل، أو عند ما أوصى صحابته اللجوء إلى المنطقة، وإنّما كان ذلك قبل بعثته، باعتبار حاضنته أم الأيمن كانت تنحدر من الحبشة، كما أنّ ولادته ومولده يُؤرخُ بعام الفيل، وهو حادثة محاولة الأحباش بهدم الكعبة المشرفة بقيادة أبرهة الأشرم الهالك بوادي المحسر بين منى ومزدلفة، وعلى إثرها نزلت سورة الفيل التي أرَّخت بهذه الحادثة، وهي سورة مكية. ومعنى ذلك أنّ العلاقة بين القرن الإفريقي والجزيرة العربية تعود إلى ما قبل بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم – بل وكانت قديمة للغاية منذ عصور ما قبل التاريخ – كما ذكر ذلك الأخباريون – ، وبعد ظهور الإسلام لم تنقطع هذه العلاقة بفترة من الفترات، وكان ذلك رغبة النبي – صلى الله عليه وسلم – من خلال وصيته العظيمة لأمته قائلاً : ” دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم “. وقد التزم المسلمون بهذه النصيحة.
وهكذا كانت الدولة الإسلامية بقيادة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تعطي اهتماماً كبيراً بمنطقة القرن الإفريقي، ويستقبل الوفود منها، وكم كانت فرحة النبي – صلى الله عليه وسلم – عند ما عاد المهاجرون من أرض الحبشة إلى منطقة الحجاز ، وقد بشر أحد الصحابة بعودة هؤلاء المهاجرين إلى النبي، وحينها لم يتمالك شعوره – صلى الله عليه وسلم – وعبر فرحته بقولته المشهورة: ” ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟”
الجدير بالذكر أنّ منطقة القرن الإفريقي أو ما كان يسمى في العصور الإسلامية بلاد الحبشة لم تكن منطقة منعزلة عن العالم، بل كانت لها علاقة بمصدر الخلافة في دمشق في العصر الأموي وفي بغداد في العصر العباسي رغم أنّ ذلك لم يكن على مستوى عال على غرار علاقة الخلافة بالأمصار الإسلامية الأخرى. ولا يستغرب على ذلك؛ لأنّ أرض الحبشة عموماً كانت معروفة، كما أنّ الصلات بين الجانبين كانت قويةً، وأنّ العرب وخاصة أهل الجزيرة العربية كانوا متعودين على السفر إليها حتى صارت المنطقة سوقاً ومتجراً لهم يتجرون ويجدون فيها رفاغاً من الرزق وأرباحاً لتجارتهم، وقد ساعد على ذلك سهولة الاتصال بالمنطقة وقربها جغرافيا، وكذا تفوق العرب بالعلوم البحرية وصناعة السفن، إضافة إلى رغبتهم في إيجاد أماكن استقرار دائم في سواحل إفريقيا الشرقية بل وإقامة كيانات إسلامية، وقد أشرنا ذلك في كتابنا ” الثقافة العربية وروادها في الصومال”.
وللحديث بقية..